كان نهاراً شتوياً بارداً، حينما استوقفت شابة أمريكية في أحد شوارع مدينة بوسطن، لأسألها عن أحد المواقع في قائمتي، فوصفت لي الموقع بترحيب ولطف، قبل أن تسألني عن جنسيتي، أجبتها على الفور أنا من السعودية، فصرخت مصدومة: «شِت» أي تباً بلغة الشارع الإنجليزية. تبدّلت ملامح وجهي ليس لأني لم أكن أتوقع أو أترقّب ردة فعلها، بل لأنّها صدرت بعفوية كاملة، وكأن الكلمة اندفعت مباشرة من عقلها الباطن، وسقطت على طرف لسانها، ما جعلها تعتذر مستدركة: اعذريني لم أتوقع أن اسمع تلك الإجابة. أكاد أجزم بأن كل مبتعث ومبتعثة مرّ بتجربة محاكمة عابرة بتهمة أنه «سعودي»، إما عبر موقف أو كلمة أو حتى نظرة ولغة تجسد وتوحي بالكثير، فكونك سعودياً يعني أن تضّطر مراراً أن تبرر أنك مختلف، وأن البلد الذي يصوره الإعلام الأمريكي باستمرار بالتخلف والعنف تغيّر، وبات أكثر انفتاحاً وتقدماً، لكن هل يصلح العطار ما أفسده الواقع؟ أحد أسباب القلق الذي يصاحب إعلانك عن جنسيتك هو، أنك تأتي من بلد ذي إرث قديم وجديد مع الغرابة واللا منطقية لدى المجتمع الأمريكي، فما نعتقده في السعودية، بأن بعض الأحداث المحلية التافهة، التي لا تمثل رأي الأغلبية، تمر مرور الكرام ولا يتجاوز صداها حدود العالم العربي، مثل تصريح ذلك بأن قيادة المرأة تؤثر على الحوض والمبايض، أو ما ادّعاه الشيخ الآخر مؤخراً بأن الأرض ثابتة لا تتحرك والشمس هي التي تدور حولها في الفضاء، أو احتجاز الناشطة لجين الهذلول لأنّها قررت أن تعبر حدود بلادها باستخدام وسيلة نقل مسالمة هي السيارة، خاطئ! إذاً تحظى هذه الأخبار باهتمام عالمي كبير، وتفرد لها مساحات واسعة من التغطية والنقاش، نظير جرعة الغرابة والطرافة التي تتمتع بها، دون أن يوفر المحررون طبع كلمة «السعودية» في واجهة كل تلك الأخبار. فبتنا نواجه خطّين متوازيين كلاهما يصب في مصلحة تكريس الصورة النمطية عن العقلية السعودية، أحدهما هو التطرف الديني ومنتجه الأكثر بشاعة وهو (الإرهاب)، والآخر هو التعاطي الجائر مع النصف الآخر للمجتمع وهو المرأة. وحينما نتناول هذين الجانبين، لا يسعنا إلا أن نكتشف أننا الأكثر تورطاً في هذين الحقلين من أي دولة عربية أو إسلامية أخرى. فأحداث 11 سبتمبر كان أكثر منفذيها يحملون الجنسية السعودية إن صحت رواية الأمريكان، كما أن المطلوب رقم واحد لدى المخابرات الأمريكية كان أسامة ابن لادن الذي يعرف عالمياً بأنه سعودي حتى بعد أن سُحبت الجنسية منه، فارتبط اسم السعودية بالإرهاب وتصدير التطرف، وعانى السعوديون الذين كانوا يعيشون في الولايات المتحدة إبان الأحداث الأمرّين، من بشاعة الصورة التي ألصقت ببلادهم، وعاد بعضهم غير قادر على تجاوز هذا التضييق والتمييز العنصري ضده. أما بالنسبة لقضية المرأة، فعلى الرغم من أن كثيراً من السعوديين يؤكدون ويؤمنون بأن قضية قيادة المرأة على سبيل المثال ليست أكبر اهتماماتنا، إلا أن هذه القضية شكلت دعاية مجانية عبر السنوات لتشويه صورة المملكة واعتبروها دولة مدنية لا تحترم حقوق الإِنسان، وكرّست للصورة النمطية بأن المرأة السعودية مضّطهدة ومقّموعة، وتُعامل كمواطن «درجة ثانية» في بلادها. فبات السعوديون في الخارج محاصرين تحت ضغط مستمر، وشعور متنام ٍ ومؤلم بالعزلة، عما ينعمون به من انفتاح وتسامح فكري مع الآخر، ورغبة وشغف للإنجاز وإن كان على آلاف الأميال من وطنهم السعودية، وما يجري من محاولات لضبّط بوصلة التشدد الديني باتجاه المملكة، في ظلّ غياب للدور السعودي الرسمي لتصحيح هذا النظرة، وإطلاق حملات إعلانية مستمرة لتقديم صورة أقل ظلاماً عما يتم فرزه وترويجه في وسائل الإعلام المختلفة. ومن هنا يطيب لي أن أسأل عما قدمته وزارة الخارجية لرصد تلك الصورة وتحليلها ودراستها؟ ومن ثم استحداث جهاز تشرف عليه الوزارة، لتحسين صورة المملكة عبر الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، وحملات التبرع الخيري، والمساهمة في بناء مراكز ثقافية وإِنسانية تعنى بنقض كل ما يتم تداوله وترويجه ظلماً عن المملكة عالمياً. وللملحقيات والسفارات الخارجية في أمريكا وأوروبا دور كذلك، عبر دفع تلك الطاقة الشبابية من المبتعثين والعاملين للمشاركة في الفعاليات الثقافية المختلفة، والبرامج الحوارية، لسد الفراغ، ودحض الادعاءات، ومنح صورة أكثر عصرية للعالم عن المملكة. الوقوف للتفرج على ما يحدث والاكتفاء بنقد التحيّز والتمييز الممارس لن يغير شيئا، بل سيزيد الصورة سوءاً ويحول الفكرة إلى أيديولوجيا.. هذا ما أدركته الولايات المتحدة بعد تدهور مكانتها وتشوه صورتها لدى العالم، فحركت أسطولها الإعلامي والسينمائي، ورسمت الخطط وأعادت ترتيب الأوراق، ليقينها أن «قوتها الناعمة»، لا تقل شأناً عن قوتها العسكرية وإن فقدتها ستدفع ثمناً باهظاً سياسيا واقتصادياً واجتماعياً.. فهل نتّعظ؟!