هناك فاصل واضح بين الكاتب العربي الذي يكتب باللغة الفرنسية، وبين قرينه الذي يكتب باللغة العربية في تونس. وهناك نوع ثالث من الأدباء الذين يتقنون الكتابة باللغتين معا، ويقوم بعضهم بترجمة أعماله من إحدى اللغتين بنفسه بسهولة واضحة. من أبرز الروائيين الذين يكتبون باللغة الفرنسية هناك صلاح الدين يحبرى، وعادل عروى، ومصطفى كليلى، وعبد الوهاب مدب، وسعاد جلوز، وهيلين يبجير، والقائمة طويلة. وبمراجعة موسوعات (أو أدلة) الكتاب التونسيين، سواء المكتوبة عن أدباء المغرب العربي الذين يكتبون بلغة الأم العربية، أو باللغة الفرنسية، أو بمراجعات الموسوعات الإليكترونية على شبكة المعلومات، سواء باللغة العربية أو الفرنسية، فإننا لن نجد الكثير من المعلومات حول الكتاب ذوي القلم الفرنسي في كافة الأدلة المكتوبة عن الأدباء، ومنها «كُتاب من تونس» إعداد عمر بن سالم الصادرة عن اتحاد الكتاب بتونس. الغريب أن هذه الموسوعة التي تتضمن سيرة مختصرة للغاية لأكثر من أربعمائة كاتب تونسي، خلت تماما من كافة الأدباء التونسيين الذين يكتبون باللغة الفرنسية، وإن عاشوا في الوطن، ومن أبرز هذه الأسماء منصف غانم، وصلاح خليفة، وباكوس هاشمي، ومحمود علام، وعبد الوهاب بوهنية، وآخرين. اثنان فقط من الأدباء ويمكن أن تجدهما في موسوعات عن الأدباء التونسيين سواء كانت هذه الموسوعات مكتوبة باللغة العربية أو الفرنسية، الأول هو فرنسي المولد اختار الإقامة في تونس، وحمل جنسيتها، اسمه بيير أوليفيه، والثاني هو الشاعر الصحفي محمد عزيزة، وهو أحد أدباء تونس الأكثر شهرة خارج حدود بلاده، أكثر ما هو معروف في تونس نفسها. محمد عزيزة، حسب قاموس الكتاب المغاربة، مولود في عام 1940، هو شاعر وباحث، وقاص، وكاتب مقال، بالإضافة إلى كتبه فى المقابلات مع شخصيات مرموقة، وتنتشر كل كتاباته باللغة الفرنسية. عقب حصوله على شهادة اتمام التعليم الثانوي، قرر عزيزة الرحيل إلى باريس، وهناك التحق بجامعة السوربون، ودرس الأدب، وحصل على شهادة الدكتوراه، واستقر به المقام بين باريس وتونس. عمل محمد عزيزة رئيسا لقسم العلاقات الخارجية بوزارة الثقافة التونسية، كما عمل مديرا عاما بالإذاعة والتلفزيون، ثم قرر العودة إلى باريس، واستقر هناك حيث عمل صحفيا بالعديد من المجلات الثقافية، ومستشارا لدى العديد من دور النشر. الغريب أن الكتاب الاول لمحمد عزيزة، كان قد نشر في العاصمة الجزائرية باللغة الفرنسية تحت عنوان «المسرح والإسلام» عام 1970. وفيه أكد أن المسرح العربي في القرن العشرين نجح في توصيل رسالة الاسلام إلى المشاهدين في كل انحاء الوطن، وان الرسالة الدينية وصلت إلى الناس من خلال عنصر التمثيل، وقد حدث ذلك في كل بلاد الوطن العربي، حيث انتقلت التجربة من بلد إلى آخر، وساعدت اللغة العربية في انتشار هذا المسرح، باعتبار أن يعقوب صنوع جاء من بلاده إلى مصر، وخلق فنا جديدا على الناس، فتوافدوا إلى دور العرض، وانتقلت المسرحيات بين المدن والقرى، وأقيمت العروض، والمهرجانات والمسابقات، تعضد من مكانة المسرح فى خدمة الاسلام. وضع محمد عزيزة فن المسرح أمام عينيه، ففي عام 1970 أيضا، نشر دراسته «دراسات فى المسرح العربي المعاصر» عن الدار التونسية للنشر وفي عام1971 قدم لدى الناشر نفسه كتابه الشهير «الخط العربي»، ثم توالت أعماله مثل «الهياكل التقليدية للمشهد» عام 1980، و «الفنون الأفريفية»، أيضا في العام نفسه ما يعني غزارته في الكتابة، وأيضا تركيزه حول موضوع مهم هو المسرح الحديث، سواء في الوطن العربي، أو افريقيا. والغريب أن هذا الأديب الذي بدأ حياته بكتابة البحوث والدراسات وهي عبارة عن أطروحات جامعية. قد تنبه فجأة أنه مبدع موهوب، وأن من الأفضل أن يكتب القصائد والقصص القصيرة، وفي عام 1978 نشر ديوانه الأول «صحف الفن»، وفى عام 1980 نشر مجموعته القصصية «اسطرلاب البحر» لدى الناشر الفرنسي ستوك، ثم عاد إلى الشعر مرة أخرى عام 1983 بديوانه «كتاب الاحتفالات»، الصادر أيضا باللغة الفرنسية. ورغم هذا التنوع الواضح في كتابات محمد عزيزة، فإن أهم كتبه على الإطلاق يحمل عنوان «وميض كاتب» وهو بمثابة حوار طويل مع الشاعر السنجالي الشامل ليبولد سيدار سنجور (1900 - 2001)، وهو أول شاعر أفريقي يتولى رئاسة الجمهورية في بلاده، ثم ترك منصبه ليتفرغ للعمل العام، وأيضا لكتابة الشعر، وهذا النوع من الكتب موجود في الثقافة العالمية، حيث يقوم كاتب مرموق بعمل حوار مع شخصية ذات وزن، فيحاول التعرف عليه من خلال حوار طويل ينشر في كتاب، يعكس مسيرة حياة هذه الشخصية، وأفكارها، وأسلوبها في الحياة، والتوقف عند أهم المراحل الإبداعية، والحياتية، ولعل الكتاب الذي قدمه المخرج الفرنسي فرانسوا تريفو في حواره مع المخرج الأمريكي ألفريد هيتشكوك هو الأبرز في هذا الشأن، وكذلك الحوار الذي أجراه عزيزة مع سنجور، هو ليس مجرد حوار تقليدي بين كاتب، وشاعر (رئيس دولة سابق) بل إن هناك نقاطا مشتركة بين الرجلين، فقد عكس عزيزة في هذا الحوار نقاط التشابه مع سنجور، وكشف عن قوة علاقته بالثقافة الأفريقية، الزنجية، فكلا الرجلين، سنجور وعزيزة ينطقان بالفرنسية، وهي لغة الكتابة الأولى لكل منهما، رغم أنها ليست اللغة الأولى لأبناء الوطن، فسنجور قد ذهب إلى فرنسا في فترة مبكرة من حياته، حيث تمكن أبوه من تحمل تكاليف تعليمه في المدارس والجامعات الفرنسية، وكان من أبرز زملائه في الجامعة الرئيس الفرنسي بوجيرو، الذي عضده دورا كشاعر ورجل سياسة، فقد أقام سنجور قبل الرئاسة وبعدها في فرنسا، وصادق برجال السياسة، كما لم يتوقف عن كتابة الشعر وله قصائد إنسانية كثيرة. بدا محمد عزيزة سعيدا ومتهنى وهو يحاور شاعرا مثله، وكأنه يخاطب الشاعر بداخله أكثر ما يتحدث إلى رئيس جمهورية سابق، تعامل مع الحياة كشاعر، وليس فقط رجل دولة من الطراز الأول. وقد استنبط عزيزة من أعماق سنجور الأسرار التي كانت وراء قصائده، وقد ركز على المرحلة المتألقة في حياة سنجور في الأربعينيات من القرن العشرين وهي أيضا الفترة التي عمل في السياسة، فانضم إلى الأحزاب السياسية، ونادى باستقلال وطنه عن فرنسا، وفي مقابل هذا الاستقلال، صار على السياسي أن يستأذن من صديقه الشاعر الذي بداخله أن يتركه لبعض الوقت، فالشعر والسياسة لا يجتمعان في رجل واحد.. وتحقق الاستقلال، وصار سنجور رجل دولة، ورئيس جمهورية، وكان من أوائل من نادوا بعدم الانحياز، في قمة الحرب الباردة بين الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفييتي، وبين الغرب بزعامة الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وقد كان سنجور قريبا من كافة القيادات العربية طوال سنوات بقائه في الحكم، وزار البلاد العربية، ثم ترك منصبه من أجل أن يسمح لغيره بحكم البلاد. آمن سنجور بالديمقراطية وقد تحدث إلى محمد عزيزة أن المرء قد يصبح رئيسا للدولة بسهولة، خاصة في أفريقيا في فترة شهدت الكثير من القلاقل، والانقلابات، لكنه لن يظل شاعرا لفترة طويلة. ومن هنا جاءت أهمية الكتاب الحواري، وهو نوع من الكتب انتشر في المكتبة العالمية عقب نجاح هذا الإصدار، وبدت هوية محمد عزيزة أكثر ما لو كان قد قدم بحثا عن سنجور فالأسئلة تعكس هوية من يطرحها، أثر إبداء الرأي في الكثير من الأحيان، وبدا كيف أن المحاور قد استوعب الشخصية التي أمامه، خاصة انها متنوعة، وكثيرة الخبرة، والتجربة، وصار اسم محمد عزيزة مقرونا باسم سنجور، باعتبار أن الكتاب مرآة صادقة لهذا الرجل الذي له قيمته في تاريخ بلاده، وأيضا في فرنسا، وثقافة الزنوجة، وبالتالي في الثقافة الفرنسية.