الروائي بدر السماري في روايته الثانية والتي تحمل عنوان"ارتياب" والصادرة عن "دار أثر" يحافظ على الكثير من معطياته السردية التي جاءت في روايته الاولى "ابن طرّاق" كثيمة العائلة والشخصيات التي تهادن الطقس الجماعي لكنها تظل تتميز بوجعها الذاتي. ويذهب في روايته إلى مساءلة تلك العلاقات غير المرئية الممتلئة بالشك والارتياب. وفي هذا الحوار ل" لثقافة اليوم" نتعرف على تفاصيل الارتياب في هذا الحوار: * ما بين تجربة ثنائية مشتركة في كتابة الرواية، تمثلت في رواية "ابن طرَّاق" ثم تجربة فردية في كتابة رواية "ارتياب". التحول من الكتابة الثنائية للرواية إلى الكتابة الفردية كيف وجدته؟ وما هو الفارق الذي لمسته بين التجربتين؟ - على مستوى الصنعة والفن لا يوجد فارق كبير، هي ذات الخطوات التي يحتاجها الروائي لكتابة الرواية حتى تكتمل.. الفرق يكون في أن العصف الذهني ذاتي، أنت وحدك تأخذك الأحداث والشخصيات، وتقرر ما يجب أن تكتب وما يجب أن تمحو. بإمكاني القول إن الكتابة الثنائية أكثر ثراء على مستوى الأفكار، والكتابة الفردية أكثر حرية في اتخاذ القرار على مستوى أحداث الرواية. * بعض عناوين الروايات تشكل عبئاً على النص، بمعنى أن النص الروائي يجب أن يسير في اتجاه دلالة عنوانه، وارتياب كان عنوان روايتك فكيف وجدت دلالة هذا العنوان على أحداث النص؟ - بقدر ما كانت كلمة واحدة كعنوان للرواية تحد من حركة النص، إلا أنها جاءت ثرية جداً ومناسبة للنص السردي ولطريقة السرد. كلمة "ارتياب" دون ال التعريف كلمة بلا حدود، حتى إن الصوت السردي كان مرتاباً طيلة القسم الأول من الرواية، من هو الراوي؟ هل كان الراوي العليم؟ أم أحد شخصيات النص؟.. كان الصوت غير قادر على الجزم بالأشياء، يأخذك في اتجاه ومن ثم يمضي في الاتجاه المعاكس، ومن خلال العديد من القراء، لمست أن هذه المشاعر وصلتهم.. الكثير منهم قطعوا شوطاً طويلاً وهم غير جازمين إن كانت علاقة ذيبان بغزيّل علاقة حب؟ أو إن كانت العداء بين ذيبان ومبارك عداء محضاً له أسبابه؟.. إجمالا، أرى أن اسم الرواية يتوافق كثيراً مع النص، وكل ما في الرواية دخل تحت فحص الارتياب والشك، بدءاً من الصراع، للحب، للعلاقة العاطفية، للوجدانية.. إلى ما لا نهاية، كانت محاولة لإخضاع كل شيء تحت الشك، والشك وسيلة ثمينة للاكتشاف والمعرفة. لا أكتب الشخصيات الهامشية من أجل التعاطف أو لغرض إنصافهم.. أكتبها لأني أحب رؤيتها في الرواية * ألا تعتقد بأن حضور شخصية الابن متعب، الذي تولى السرد في الفصول الأخيرة من الرواية، قد بدد مكتسبات ثيمة الارتياب وأضاف نغمة زائدة على إيقاع النصّ؟ - بإمكانك التعامل مع الرواية كنصين، القسم الأول كرواية منفصلة، والقسم الثاني والذي تولى فيه متعب السرد بضمير المخاطب كرواية أخرى.. لكني آثرت جمع القسمين في رواية واحدة لسبب مهم يتعلق في بناء الرواية، فلو قرأت القسم الأول، لربما يظن القارئ أن الرواية اكتمل بناؤها، ولكن حين تكمل القسم الثاني، سوف تجد أن القسم الأول كان عبارة عن هدم فقط، وأما إعادة البناء فهي في القسم الثاني.. القسم الأول كان أشبه باستعراض مرويات الأسلاف بحوادثها المثيرة للريبة، الارتياب كان جزءاً من القص، أما في القسم الثاني ستجد الشك والارتياب من كل هذه المرويات، الشك كان محاولة لإخضاع الحكايات للمنطق، وهكذا تكتمل الصورة الخاصة بشخصيات الرواية، لهذا كنت بحاجة لهذا الصوت الهادئ للتخفيف من صخب الأحداث والتّعرف على الوجه الآخر من حكاية ذيبان وعلاقته بغزيّل، بنهايات ابن معتاز ومبارك والحارة وحياة.. لا تكتمل الصورة بكل تفاصيلها سوى مع الصفحة الأخيرة، لنتذكر أن متعب بدأ القسم الثاني متذمراً من الأسلاف وكل ما يحيط بهم، وحين شرع يمنطق الحكايات، توصل مع نهاية الرواية لهذا التصالح، لعل الفهم والإدراك يقودنا للتصالح مع الأمور. * تذهب إلى الشخصيات الهامشية في الحياة، هم دوماً خيارك في الكتابة الروائية، لكن تتحدث عنهم برؤية تفلسف تفاصيل وذوات تلك الشخصيات، يصبحون في نصك شخصيات تأملية، هذا الأسلوب ألا يحدث فجوة بين تكوين الشخصيات وأسلوبك في السرد؟ - الشخصيات الهامشية في الحياة تبدو هامشية لأننا نراها من بعد، ليست تحت بقعة الضوء، ماذا لو قربنا العدسة منها؟ واقتربنا أكثر.. سوف نجد أنها الأكثر ثراء كحركة وحدث، هذه الشخصيات تتجلى وتتدفق بطبيعتها بعيداً عن القيود، تحرك السرد بشكل لا يمكن ملاحظته سوى حين نقترب منها، حين نكتشف الدوافع والرغبات فيها.. البطل في النص السردي ليس بالضرورة أن يكون بطلاً في الحياة. بالطبع أتمنى أن لا تحدث فجوة في تكوين وبناء الشخصية بالدرجة الأولى، ولهذا ألجأ إلى بناء الشخصية بناء تدريجي مع مرور القص وأدعم ذلك بالعناية بالمشهد، المشهديّة يجب أن تكون على أعلى مستوى بصري، حتى تتشكل أمام القارئ صور عالية الجودة.. كما أن الأمر يتطلب شيئاً من التقمص، لابد من الكاتب أن يتقمص هذه الشخصية أو تلك كي يستطيع البوح بالنيابة عنها، وهو أمر شديد التعقيد، يتطلب الكثير من التأمل والمراقبة، مراقبة التفاصيل الصغيرة تحديداً في الحياة، ردود الفعل بين شخص وآخر، التصرفات المعاكسة الصغيرة، الأشياء والكلمات الصغيرة التي تثير المشاعر. لابد للكاتب من أن يتقمص الشخصية الروائية كي يستطيع البوح بالنيابة عنها.. وهو أمر شديد التعقيد البطل في النص السردي ليس بالضرورة أن يكون بطلاً في الحياة * هل تكتب تلك الشخصيات من باب التعاطف الإنساني أم لإنصافهم أم إنك تكتبها بروح المتأمل؟ وكيف ترى شخوصك الهامشية بعد أن أصبحوا طلقاء في روايتك؟ - يقولون إن الرواية هي تاريخ من لا تاريخ له، لكن هذه المقولة لا تهمني، لذلك لا أكتب هذه الشخصيات من أجل التعاطف أو لغرض إنصافهم.. أكتبها لأني أحب رؤيتها في الرواية، أنها أكثر حرية وثراء للسرد. هذه الشخصيات التي تُسمى هامشية في الحياة، هي من تقود السرد في الرواية، وتتجلى في بعض اللحظات لتصبح هي محرك الحدث الحقيقي. أنها متجلية ومتدفقة وغير متكلفة، حساباتها قليلة ولهذا تحررت من القيود واستطاعت التخلص كثيراً من أعباء الشخصيات المحورية، تتصرف بطبيعة فطرية، وبشكل لا يمكن ملاحظته سوى حين نقترب منها، وحين نكتشف دوافعها ورغباتها. * كان هناك صراع ثنائي بين مبارك وذيبان، لكن هذا الصراع يتراوح بين الحضور والتواري في الحكاية. هل الإعلاء من شأن هذا الصراع الثنائي وتغييبه أحيانا يعود إلى رغبتك في ترك التأويل مفتوحا بحسب تلقي القارئ؟ - الصراع كان موجوداً، لكن القاعدة التي انطلق منها هذا الصراع هي من كانت محل التساؤل،.. هل كانت نقطة صراع حقيقية؟ أم كانت زائفة؟.. لذلك مرَّ هذا الصراع تحت مظلة الارتياب، لم يكن باستطاعة القارئ أن يجزم بوجوده أو حتى مسوغات هذا الصراع.. كان فيما يشبه العداء الزائف، أو الذي بلا مبرر يسوغه للقارئ.. لهذا كان من المهم أن لا يصل القارئ ليقين، أن يرتاب لوجوده طيلة النص، حتى يذوب هذا الصراع مع الوقت، ولعل القارئ يكتشف أبعاداً أخرى حين القراءة. وفي الحقيقة أن كل ما في الرواية دخل تحت فحص الارتياب، وأظن أن هذا كان ظاهراً للقارئ بدءا من الصراع، للحب، للعلاقة العاطفية، للوجدانية.. إلى ما لا نهاية، كانت محاولة لإخضاع كل شيء تحت الشك بما فيها الصراع، الصراع أو الكراهية التي تأخذ طابعاً مزاجياً، كان من المهم إخضاعها لمختبر الشك. * في رواية "شارع العطايف" كانت هناك حكاية حب بين شنغافة ومعديّة وفي روايتك كانت حكاية الحب بين غزيل وذيبان. كيف يكتب هذا الحب بين تلك الشخصيات اللاعاطفية في تصورك، وما هي المغايرة التي تقدمها تلك العلاقات العاطفية بحسب معطيات تلك الشخصيات؟ - ليس بإمكاني القول إن هذه الشخصيات لا عاطفية، لكنها بلا إكسسوارات عاطفية تناسب النمط المتعارف عليه، يتبادر إلى الذهن تسمية أخرى وهي الشخصيات اللاواعية "Naive characters ".. الشخصيات التي تتدفق منها العاطفة بشكل فطري من خلال اللاوعي أحيانا، وهو ما حدث بين غزيل وذيبان، هذه الحالات تأتي مغايرة للقارئ، الحب حالة كونية تسكن جميع الأفئدة، وحالة الحب مشاعة للجميع، لا تستأذن القلوب والعقول، إنه الشيء الوحيد الذي يجمع بين كافة صنوف البشر، الإكسسوار والمحسنات التي تبرر حالة الحب بالشكل الخارجي مبررات كاذبة أو وقتية، إذ إن العلاقة العاطفية علاقة وجدانية تنبع من داخل الإنسان وتظهر للخارج، ليس كما يُكتب في بعض الروايات الرومانسية أو بعض غزليات الشعر العربي والتي حولت الشاعر العاشق إلى مدَّاح لمعشوقته، مثل هذه الحالات حين تُكتب، تقدم الحالة العاطفية بلا مبررات، تأخذ القارئ إلى جوهر الإنسان، تجرده من كل الهالات التي تحيط به، باختصار: مثل هذه الحالات كما حدث بين غزيّل وذيبان تُجسد حاجة الإنسان الماسة للعاطفة والحب كحاجة أساسية ملحة في الحياة. * لو انك اكتفيت بحكاية غزيل وذيبان ألا ترى أن تلك العلاقة الثنائية، بكل مكوناتها العاطفية المختلفة، كانت قادرة على خلق حالة روائية مكتملة؟ - ربما، لو كنت فقط أرغب في كتابة رواية عاطفية، سيكون الأمر مثلما قلت، لكن الحالة العاطفية في رواية ارتياب كانت إحدى الحالات التي خضعت لاختبار الشك والارتياب.. كان بإمكاني كما أسلفت التعامل مع الرواية كنصين، القسم الأول كرواية منفصلة ومحوره ذيبان وغزيّل، والقسم الثاني والذي تولى فيه متعب السرد بضمير المخاطب كجزء ثانٍ للرواية الأولى وشرحت ذلك سابقاً.. إجمالا، أرى أن حالة غزيّل وذيبان فرع واحد من فروع الرواية لا يكتمل إلا بها، وكي تكتمل الصورة الخاصة بشخصيات الرواية وبكل قيماتها، رأيت أنه من الضرورة الفنية المضي في القص ليكتمل العمل. * في حوار عن الكتب بين مبارك ومتعب كان مبارك يتحدث في ذلك الحوار بلغة أقرب للغة العامية. ألم يكن من المفترض أن تتيح لمبارك، في ذلك الحوار، فرصة إظهار شخصية المثقف وجعله يتكلم بطريقة أعمق وأكثر إقناعا؟ - تعمدت التخفيف من لغة مبارك في الحوار، مبارك شخصية مثقفة ومتعلمة ولهذا كان أثره الحضاري والثقافي على الأرض فعلاً لا قولاً، بالنسبة لي ككاتب، لم يكن مبارك بحاجة للحديث بلغة ثقافية عالية لإثبات نخبويته، أرى أن أفعاله وأحداثه على الأرض كانت تضيء شخصيته المثقفة أكثر من حواراته، كما أن الحوار تم بطريقة حميمية ولكن فيه خطفات عميقة بجمل سهلة تناسب حالة المكان والزمان، تناسب حالة اثنين يتنادمان في المقهى، هكذا رأيت الأمر. * توفيق في رواية “فخاخ الرائحة"، ومالك في رواية "جاهليّة"، وشنغافة في رواية "شارع العطايف"، وكذلك فرج في رواية "ابن طرَّاق" ثم مبارك في رواية "ارتياب"، جميعها شخصيات تكاد تحمل ذات المرجعية. في تصورك ما هو المختلف الذي قدمته في تناولك لشخصية مبارك؟ - شخصية مبارك أكثر فرادة رغم تقاطع البعد المرجعي للشخصيات، والمختلف لدى شخصية مبارك أنها تخلصت من أعباء العبودية في الماضي، وتجاوزت ذلك كبعد نفسي على الأقل، لكن ذلك لم يحدث مصادفة بالطبع، حدث مع مواصلة التحصيل العلمي والعمل، مواصلة الاطلاع وتنمية الإدراك، ولو عدت للمشهد الأول في الرواية، سوف تلمس مدى ارتباك مبارك وارتيابه وخوفه الدائم وضيقه بالحرية والذي قاتله حتى تغلب عليه بمواصلة التحصيل العلمي والتعلم.. كان من الممكن لمبارك أن يكون مثل شخصيات كثيرة لو أنه ركن إلى مكانه الآمن وآثر العزلة، لكنه كسر ذلك القيد من بداية الرواية، واصل حياته بعد ذلك بمزيد من العطش والتوق للمعرفة، وبهذا صنع الفارق عن بقية الشخصيات. * في رواية ابن طرّاق كانت النساء السيئات السمعة هنّ الأكثر حضورا في الرواية. وفي ارتياب تكرر حضور ذلك النموذج. هذا التكرار ما دلالته؟ وكيف ترى الاختلاف في استحضار ذلك النموذج بين الروايتين؟ - الفارق كبير بين الحضور في الروايتين. في رواية "ابن طرَّاق" كان الحضور أكثر كثافة كأداة من أدوات الصراع بين الذكور في الرواية، أما في رواية ارتياب فهو حضور مخفف جداً، إذ إن مصطلح النساء السيئات السمعة أو "الخايبات" كما جاء في الرواية كان مصطلحاً ذكورياً بامتياز، وهو من ابتكار ذيبان تعليقاً على مرويات وحكايات ابن معتاز في رواية ارتياب، أما الدلالات فأحب أن أتركها للباحث الاجتماعي، أنا روائي فقط.