الحديث «الموجه» والمستمر عن كون إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط ليس فقط مضحكا، ولكنه مهين وغير محترم، فالمتابع لسلسلة جرائم إسرائيل المتواصلة بحق الفلسطينيين عبر عقود طويلة من الزمن، واغتصاب الأراضي، وتدمير البيوت ودور العبادة، والقتل العشوائي الذي لم يستثنِ النساء ولا الأطفال، واحتقارها لكل الأعراف والقوانين والقرارات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان ومعاملة الأسرى والسجناء وعدم تنفيذ قرارات الأمم المتحدة.. هذا المتابع لم يعد من الممكن أن يقبل بوصف إسرائيل كدولة ديمقراطية أبدا بعد اليوم. ولم يقتصر الأمر على تجاوزات إسرائيل بحق الفلسطينيين فقط، ولكن يسري الأمر أيضا، وبصورة مرعبة، على فئة مهمة من «مواطنيها» و«حاملي الجنسية الإسرائيلية» من العرب الذين تبلغ نسبتهم من إجمالي عدد السكان أكثر من 30 في المائة، فهم يتعرضون لحملة مقننة من التمييز العنصري البغيض. عرف الاقتصاد الإسرائيلي منذ فترة بأنه بات حاضنا لبعض الشركات الناجحة والمهمة في مجال التقنية الحديثة والمعلوماتية تحديدا، وشهدت بعض الشركات نجاحات لافتة، وأصبح هذا القطاع من أهم مبتكري الوظائف ومستحدثيها، وبالتالي «توقع» العرب أن ينالهم من الحظ نصيب وجانب، ولكن هذا لم يحدث قط. ورغم كون العرب يشكلون 30 في المائة من سكان إسرائيل، فإنهم فعليا لا يشكلون إلا أقل من 1 في المائة من الموظفين في قطاع التقنية العالية، وقال أحد الخبراء الإسرائيليين، وهو يشرح أساس ذلك الأمر: «يوجد انعدام في الفرص العادلة (وهو لفظ مهذب بدلا من كلمة التفرقة والتمييز الصريح)، وانعدام في البنية التحتية المناسبة (في المناطق العربية)، وعدم وجود فرص للتمويل والاقتراض». يتخرج سنويا 400 عربي في الجامعات الإسرائيلية في مجالات التقنية العالية، ولكن 44 في المائة منهم ينتهي الأمر بهم إلى العمل معلمين، و«للتغلب» على هذه الحالة اضطر الكثير من المتقدمين للوظائف إلى اللجوء إلى حلول غير تقليدية لمواجهة هذا التمييز العنصري الصارخ، فبدأوا في تغيير «عنوانهم» إلى مدن «مختلطة»، أي ذات تركيبة سكانية مشتركة بين اليهود والعرب، مثل مدينة حيفا، وأزالوا من السيرة الذاتية أنهم «يتحدثون العربية»، ووجدوا قبولا واستعدادا لأن يُوظفوا، وأن تجري معهم مقابلات شخصية، بعد أن كانوا يُطردون أو تُرفض طلباتهم أو يُغلق الهاتف بلا اعتذار في وجوههم، أو يتم الاعتذار منهم بابتسامة باهتة وصفراء. هذا الأمر اضطر المجموعة العربية للتكاتف، ومحاولة التغلب على التمييز الهائل ضدها، فبدأوا في الاهتمام بفكرة تطوير حاضنة للتقنية العالية في مدينة الناصرة، كبرى المدن العربية في فلسطين (إسرائيل بحدودها)، وأدى ذلك الاهتمام إلى توظيف ألفي مهندس عربي في الشركات العالمية التقنية في إسرائيل بارتفاع عن 350 مهندسا كانوا في عام 2008، وكان الأثر الإيجابي الأكبر لذلك في مدينة الناصرة التي يوجد فيها 600 مطور برامج بارتفاع واضح عن عام 2008، الذي كان فيه العدد 40 مطورا فقط. «التفرقة» التي تفرضها السلطات الإسرائيلية في «تفريق» العرب و«تمزيق» و«تفتيت» هويتهم تبلغ مدى وحدا لا يمكن أن يُقبل في أي بلد يحترم حقوق الإنسان، فهي قامت بإنشاء منطقة استثمارية، وخصصت لها هيئة إدارية باسم الهيئة المخصصة لتطوير اقتصاد العرب والدروز والشركس، وتقدم لهم هبة عينية بقيمة 45 مليون دولار لتطوير «أنفسهم» دون الانخراط في المجتمع الإسرائيلي الذي هم من الناحية النظرية جزء منه! حجم التفرقة العنصرية الذي تمارسه إسرائيل بحق مواطنيها غير اليهود غير معقول، وخصوصا في ظل وجود هويات غير يهودية لمواطنين إسرائيليين آخرين، مثل المسلمين والمسيحيين والدروز والبهائيين والهندوس والبوذيين وآخرين، والإقصاء والتمييز لم يطل فقط موضوع الحقوق والممارسات السياسية، ولكنه تحول إلى حالة عامة تشمل الحقوق والممارسات الاقتصادية والاجتماعية، حتى لا ينسينا الربيع العربي وبؤر الإرهاب التي خرجت منه، مثل «القاعدة» و«داعش» و«حزب الله»، أن إسرائيل لا تزال الهم الأول لنا، وهذه النماذج المذكورة هنا من باب «حتى لا ننسى»، وإن كان إجرام بشار الأسد قد جعلنا ننسى ذلك، فلقد تفوق على إسرائيل نفسها!