أخبرني عدد من الليبيين- الذين كانوا يعتبرون أنفسهم معارضين لنظام العقيد معمر القذافي- أنه لم تكن هناك دولة في ليبيا بالمعنى المتعارف عليه، وكان الوضع لا يعدو إقطاعية تُدار بحسب ما يعرف الرجل الأول في هذا المحيط الذي يُسمى ليبيا، وبحسب أمزجة ورغبات المقربين منه في النظام والعائلة. وأذكر أن أحد المعارضين- الذي قضى مدة طويلة في بلد أوروبي- كان يصف الوضع العام للدولة الليبية في تلك الحقبة، بأنها دولة المنظمة السرية لا أكثر. وبعد سقوط نظام ما كان يُسمى بالجماهيرية في ٢٠١١م، أكد لي عدد ممَن عارضوا تطورات السابع عشر من فبراير، أن الخطوات الأولى لبناء الدولة في ليبيا سارت في طريق صعب، وربما غير صحيح بناء على الإعلان الدستوري الذي صدر في أغسطس ٢٠١١م، ونتج عنه المجلس الوطني الانتقالي وما تلاه من أجسام وهيئات سياسية كانت تمثل الدولة بشكل أو بآخر. هذه المقاربة لعهد امتد نحو أربعين عاما، وتجربة ثورة لم تتجاوز أربعة أعوام، تبين بوضوح أن بناء الدولة بمعنى السلطة واستشعارها وتمظهرها على أرض الواقع في مؤسسات تحتكر استخدام القوة، في إطار منظم ومحكوم بقواعد قانونية ونظامية في ليبيا لم تر النور حتى الآن. ويخبرنا التاريخ- وبوتيرة لا تقبل النقض- أنه عندما تفرّط الدولة في سلطتها بأي شكل من الأشكال، تنشأ على الفور منظمات وتنظيمات بديلة تسد الفراغ الذي نتج عن غياب الدولة ومؤسساتها، ولكن بصورة بشعة وبدائية لا تعرف قانونا أو نظاما. وهذا تقريبا ما حدث في ليبيا منذ قيام ثورة السابع عشر من فبراير ٢٠١١م، حيث تضخمت على امتداد الساحة الليبية مؤسسة «الثوار» كعنوان عريض للسلطة وللثورة والثروة معاً في ليبيا. وتعرضت كل أشكال ومحاولات تشكيل الدولة ومؤسساتها التقليدية المادية والرمزية للاصطدام وبشكل عنيف بالثوار ورغباتهم وطموحهم، والحصول على المقابل المادي والمعنوي جراء مشاركتهم في إشعال فتيل الثورة. مفهوم الثوار له أبعاد في المخيال الجماعي لدى الليبيين على مدى أربعة عقود وتم تكييفه ليناسب أي شخصية تطمح دوما للعب دور القائد، وبعد السابع عشر من فبراير أصبح الكل ثوار واستطاع عدد كبير من الليبيين تفصيل هذا المفهوم على طريقتهم الخاصة. بعبارة أخرى، سعت جهات وأفراد للاستفادة من الثورة بشكل مباشر عبر قناة الثوار. وفي كل يوم كان يكبر ويتمدد فيهم هذا المفهوم دون تهذيب أو تنظيم. كان يعني على أرض الواقع بروز تنظيم أو فصيل أو جماعة مسلحة. وخلال فترة وجيزة، تم رصد ظاهرة عجيبة في ليبيا؛ هي تصاعد وتيرة الإعلان عن تنظيمات ومجالس شباب ومجالس شورى ودروع، وغير ذلك من المسميات التي تعني قوى مسلحة غير منضبطة بأي قانون. شهر أغسطس ٢٠١٤، كان أول المحطات التي رصدت إعلان ما يسمى بتنظيم الدولة في مدينة درنة الوادعة الصغيرة على البحر المتوسط، وفي شهر يناير ٢٠١٤م بدأت وسائل الإعلام الليبية في المنطقة الغربية «إقليم طرابلس» تتحدث بشكل ملحوظ عن وجود فعلي وملموس لتنظيم الدولة، وإن بدا هذا التنظيم يفرض نمط تفكيره على آليات الحياة في العاصمة، مما يعني انهيار بقايا مظاهر الدولة. لذا، لم يكن التصرف المستهجن من التنظيم بقتل ٢١ مصريا في الخامس عشر من شهر فبراير مستبعداً، وهو في نفس الوقت- أي التصرف- السبب الذي أعاد الشأن الليبي وتطوراته إلى واجهة الاهتمام الدولي والإقليمي، خاصة بعد التحرك المصري بقصف مواقع تنظيم الدولة داخل الأراضي الليبية. الثورة الليبية- وأعني بها ثورة السابع عشر من فبراير- وفي ذكراها الرابعة، تمر بمرحلة غاية في التعقيد، ذلك لأن الأرضية التي مهدها مفهوم الثوار على مدى سنوات، أنبتت اليوم قوة تتوعد العالم بالموت والدمار، مما نقل أدوات الحل الممكنة والمتوقعة من بين أيدي الليبيين. وهذه الأدوات تُستخدم- كما لاحظ الجميع- بشكل مؤقت، يجب أن يكون مدروسا ومحدودا من قبل شريك إقليمي يحظى بدعم ومباركة طرف محلى ليبي. الأهم من تلك التوقعات العريضة، أن يتخذ المجتمع الدولي عبر مجلس الأمن، خطوات أكثر فاعلية في مكافحة الإرهاب والتطرف ودرء أخطاره عن الليبيين وعن دول الجوار. كانت كل التيارات الليبية السياسية- على نحو خاص- تعلن صراحة رفضها القاطع لأي شكل من أشكال التدخل الإقليمي أو الدولي في الشأن الليبي. وكان الجميع هناك يُظهر حساسية مفرطة حيال هذا الأمر، وأعتقد أنه بعد أن أصبح تنظيم الدولة على حدود الاتحاد الأوروبي الجنوبية، فلم يعد أمام الليبيين إلا تجرّع الدواء المر. مستشار وباحث في الشأن الدولي