قد يتساءل القارئ، لماذا كل هذا التحامل في الجزء الأول من المقال على جيل يتعاطى مع الميديا على أنها ربما كانت القناة الوحيدة لعرض أفكاره وسرعة تسويقها؟ ومن هنا لماذا تحاول أن تأخذ دور الوصيّ في مكان لا وعظية ولا وصاية فيه؟! أنا بدوري أقول: ليس الأمر وعظا أو وصاية على أحد، كما قد يتبادر للوهلة الأولى. وإنما هو دور نقد وممارسته كعملية تقوم عليها أسئلة الحضارة واستشراف المستقبل. وأن جزءا من تجربة أي ظاهرة أو فكرة جديدة هو نقدها. ومن هنا، أدعوهم ألا يتحسسوا من طرح قضيتهم على مجهر النقد والتساؤل والشك فيما يطرحون، فهذا الأمر بديهي من بديهيات الحضارات المتقدمة. والسؤال المشروع الذي يجب أن يُطرح: لماذا لا تنقد هذه «الظاهرة» ويتم تفكيكها لمحاولة معرفة جوانب الإخفاق والنجاح فيها؟ وهذا ما أحاول الاجتهاد فيه لمقاربة حقيقة «الظاهرة» والكشف عن أبعاد تأثيراتها إن كان سلبا أم إيجابا. وإن قيل: الوقت لم يحن الآن لنقدها وتفكيكها كونها في طور البلورة والتكوين. بمعنى آخر: ما هي ألا مجرد أسئلة تحتاج للوقت الكافي لتأصيلها، ومن ثم الحكم عليها بعد ذلك. أي نحن (هم) نعيش حالة طرح السؤال التي تسبق مرحلة التأصيل. ربما أتفق معهم في أنها مجرد أسئلة (رغم تحفّظي) بشرط ألا تُسمى تنويرا، لأنني حينما أعطيها صفة التنوير، يجب أن أعرف معنى التنوير الذي أريد، والفلسفة التي يقوم عليها، أما أن أجعل مفردة التنوير هلامية، تُعرّف في كثير من الأحيان بسطحية دون هوية أو فلسفة لماهية التنوير المقصود. هذا الوهم، عاشه الجيل السابق، حينما ظن أن رفع الصوت بالسؤال واستحضار النماذج الغربية، والنقد للواقع المأزوم للمجتمع العربي، يؤسس للحظة التنوير، ويجعلنا قاب قوسين أو أدنى منها! ولهذا يجب على جيل الميديا الحديثة أن يتعلم من تجربة مَن سبقه، ويبدأ بعمل تأصيلي استقرائي للواقع. فإن لم يقم اليوم بهذا العمل بعد سلسلة الإخفاقات العربية، متى يمكن أن يقوم؟! خصوصا ونحن نعيش عصر العلم والعقل بامتياز، فالإخفاقات العربية ما هي ألا تجارب متراكمة تجعل ربما من نظرة هذا الجيل أكثر صفاء ومعرفة بعمق الأزمة الحضارية العربية من غيرهم. ومن هنا، قد يكون من إيجابية هذه الظاهرة، أنها تؤكد على حضور الجيل الجديد بسؤال الحضارة، وتحديدا بالسؤال الذي طرحه شكيب أرسلان في مطلع القرن العشرين لماذا تأخّر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟ وهو السؤال الذي يزعم الكثير من الباحثين- برغم المحاولات العديدة في نقد التراث وطرح مسألة تجديد الفكر- إضافة لاشتغال الكثيرين في البحث الجاد للوصول للإجابة على ذلك السؤال. ومع هذا لم يتم الإجابة عنه حتى الآن، ومن ضمن المتبنّين لهذا الاستنتاج؛ المفكر السوري هاشم صالح، الذي يُرجع سبب إخفاق العرب والمسلمين على الإجابة على سؤال أرسلان، «إلى عدم توافر الكفاءة العلمية والفلسفية للقيام بذلك، ومن ثم علينا العودة مجددا إلى مقاعد الدراسة لكي نتعلم طريقة التفكير العلمي بكل مناهجها ومصطلحاتها وأدواتها، فهي وحدها القادرة على تشخيص المرض العربي والإسلامي الذي نعاني منه والذي يبدو أنه يستعصي على التشخيص والعلاج حتى الآن». قال ذلك في 2010م، أي قبل أربع سنوات في كتابه- من الحداثة إلى العولمة رحلة في الفكري الغربي وأثرها في الفكر العربي-. وأظن أن السؤال- يتفق معي الكثير- لم تتم الإجابة عنه بالشكل الموضوعي على أقل تقدير يقارب الهوية العربية دون استنساخ تجارب الآخرين وإسقاطها على الواقع العربي، فهذه لدى الكتاب العرب كثيرة، وإلى الآن لم تثبت نجاحها، لأنك في حالة الإسقاط والتقليد لا تساهم في صنع الحضارة، بقدر ما تكون عالة عليها. ومن هنا لا يكون لديك تنويرك المقابل والند لتنوير الآخر. فالتنوير من وجهة النظر الأخرى هو عملية مشاركة في الحضارة الإنسانية بالإضافة وليس بالتقليد. فإن أراد جيل المغردين الجدد، أن يشرّع في عملية التنوير، فعليه أن يضع سؤال شكيب أرسلان المذكور أعلاها، أمام عينيه ويحاول الإجابة عنه، إجابة تأصيل وتشخيص للواقع العربي. وليس مجرد طرح أسئلة، بعضها ساذج ودون أي قيمة علمية، وبعضها صادم للمجتمع ومهيّج لعواطفه، دون أي أفق لرؤية جديدة. فما زالت أغلب مقولاتهم عاطفية ومتذمرة من الواقع، وهذه لا تصنع حضارة، بل قد تؤزّم أكثر مما تعالج، وتجعلنا بدلا من أن نتقدم في سلم الوعي نتراجع خطوات ليست بعقارب الساعة الوقتية، ولكن بعقارب فلسفة التاريخ وزمانه. وإن قالوا: إن هناك انسداد أفق وتقليدا مهيمنا يمنع حركة التنوير الحقيقي والعمل الذي تدعو إليه «هذا ما سمعته من بعضهم». أقول: من كانت لديه الشجاعة أن يغرد عكس الاتجاه ويصر على التغريد، أليست لديه القدرة أن يكون شجاعا في ميدان البحث العلمي والتأصيل، وهو الأجدى لمشروعه «التنويري». إعلامي متخصص بالشأن الثقافي