لا تزال الكتلة الغربية تعبث بكل طاقاتها الصراعية للاشتباك الدائم مع العالم الإسلامي. لا تزال تحركها نوازع الاستعداء والعنف الثقافي الممارس على أفكار ورؤى وتاريخ وقيم وعقائد وحضارة ذلك الآخر الملفوظ حاضراً ومستقبلاً. لا تزال تدأب على الفعلات الفجة – كذباً وتضليلاً وخداعاً ومراوغة وتحايلاً واختلاقاً- متخذة من ذلك منهجاً وأسلوباً ونظرية أبدية لا محيد عن جوهرها وأبعادها. والمتأمل في حادثة نورث كارولاينا الأميركية يجد أنها تمثل خير استدلال لجرائم الكراهية المنبثقة عن الطابع العنصري الغربي الذي لم يتوار مطلقاً مع المد الزمني ولم تتوان آلته الإعلامية في التأكيد الدائم وبكل السبل عن إلصاق الأعمال الدموية الإرهابية بالإسلام كعقيدة وبالمسلمين كفاعلين، وهو ما ساعد على إذكاء وشيوع لهيب ظاهرة الإسلاموفوبيا المصنعة خصيصاً لتكون ذريعة جيدة لحياكة المؤامرات وشن الحروب وفقاً لما حاولوا ترسيخه من فكرة أسلمة الغرب التي تستوجب بالضرورة درجة ما من المقاومة الشرسة. ذلك لأنها فكرة ترتبط بتغيير بؤرة الهوية الغربية، من ثم لا بد أن يكون الرفض المطلق هو السمة الأساسية المتصدرة في عقل ووجدان الشعوب الغربية بأسرها. وجاء تقرير «مرصد الإسلاموفوبيا» التابع لمنظمة التعاون الإسلامي مستعرضاً محاور القضية وفي إطار تطبيقي، إذ يؤكد أن كل أيام الشهر الماضي اتسمت بتصاعد حدة ظاهرة الخوف من الإسلام في تبايناتها المختلفة وعلو نبرة الاحتجاجات المناوئة للإسلام، مستدلاً بما تلقته المساجد في أميركا من تهديدات مع استمرار انتهاج سياسات المراقبة والتجسس، لكن في استنادها إلى منطق آخر يقوم على مبررات قوية تمنح أميركا الحقوق المبتذلة كافة. إلى جانب ذلك، يرصد التقرير مدى التحول الجذري لدى الأميركيين في النظرة السلبية للإسلام، ذلك بالطبع بعد أحداث «شارلي إبدو» الفرنسية، كما استعرض التقرير مدى متابعة غالبية الأميركيين لقضية الرسوم المسيئة، وهو ما يخالف توجههم العام عن ذي قبل. إضافة إلى ما يقدمه التقرير من تناقضية بالغة يستشف منها الكثير من المعاني وهي أن نداءات الرئيس الفرنسي توجهت نحو التحذير من الانسياق وراء دعايات التخويف والدعوة المكثفة لمحاولات التهدئة، لكن في الآن ذاته كانت هناك هجمات إرهابية استهدفت بعض المسلمين وأبادت ممتلكاتهم في مختلف أرجاء البلاد، وعلى ذلك فكيف يمكن تفسير مطالب التهدئة في إطار موجات الرعب المضاد والموجهة ضد المسلمين؟ وما دام هناك إرهاب وإرهاب مضاد... فما معنى وجود ظاهرة الإسلاموفوبيا؟ وما الترجمة الموضوعية لتلك الظاهرة؟ وهل تمثل إحدى آليات العنف الثقافي التي أمكن توظيفها للنيل من العالم الإسلامي؟ وهل يمكن أن يكون الكره سبيلاً مباشراً إلى القتل؟ وأي درجة من الكره تكفي لإزهاق الأرواح؟ وما هو الترياق الحضاري لمداواة الكره؟ وهل يمكن أن يكون الاختلاف العقائدي مكوناً لكيمياء الكراهية؟ وإذا كانت المواطنة هي أحد أركان الدولة المعاصرة وأيضاً إحدى دعائم الديموقراطية، فماذا يعني وجود الاضطهاد العقائدي داخل الكتلة الغربية؟ أليست النزعة الإنسانية ركيزة حضارية؟! وفوق ذلك وغيره من التساؤلات الباعثة على الغرابة والدهشة والتي تسحب مساحة الثقة القائمة في العقل الغربي، في محاولاته الاجتياحية للعقل العربي الإسلامي، بذلك العنف الثقافي المجانب لكل معاني الارتقاء الذهني والمجافي لرمزيات الحضارة القديم منها والمعاصر، ولن يتوب هذا العقل الغربي أو يثوب إلى رشده وتوازنه إلا باستدعاء كل طرائف تاريخ الإرهاب الغربي بوقائعه وتفصيلاته التي استحوذت على حقبة عريضة من التاريخ الإنساني. ولعل إشادة تقرير «مرصد الإسلاموفوبيا» بالدور الحيوي للفاتيكان، ذلك الفاعل في تخفيف حدة التوتر والمناداة بسلوك واتباع منهج أكثر سلمية في استخدام مفهوم حرية التعبير، إنما جاءت ردعاً لذلك الوازع الشرير المحرك للوساوس العنصرية الداعمة لفكرة الفتك بالآخر، والتي تتلاشى معها الحوارية الحضارية لتصعد بديلاً عنها لغة البربرية والبدائية ولعثمات ما قبل التاريخ. إن العنف الثقافي أو العقلاني إنما يمثل في حقيقته أخطر أنماط العنف، إذ إن العنف الاجتماعي والسياسي والديني يركن إلى دوافع وأسباب تفرزها البنية المجتمعية في أطوارها وتحوراتها المختلفة، أما ذلك الثقافي، فهو بالضرورة نتاج لذرائع خارجية تستهدف استبدال الكيانات أو تغييرها أو طمسها أو محوها أو القفز إلى أعماقها وابتزاز النخاع القومي وزلزلة أصلاب الهوية إلى غير ذلك من المثالب، لكن يظل هذا العنف الثقافي وحده هو دائماً ما يطرح على نفسه ويجدد لديها ذلك السؤال الخطأ: لماذا لا أستعبد الآخر وأقهره معنوياً ومادياً بحكم أني أحتكر المعرفة؟!