يجب أن نقر في البداية أن الإحاطة بجوانب هذه الشخصية البانورامية، أمر من الصعوبة بمكان، لتميّزها وتفرّدها على المحاور الإنسانية والسياسية والاجتماعية والمعرفية، وكثرة السجايا التي منحها لها الخالق. ولا شك أن الحديث عن الملك سلمان بن عبدالعزيز، لا يمكن أن ينقطع، فهو الحكيم في معالجة أعقد القضايا والمشكلات الداخلية والخارجية، والمثقف والخبير في التاريخ والثقافة الموسوعية، ولا غرابة في ذلك، فهو سليل موحد الجزيرة العربية، وامتداد لشخصية والده وقدوته الملك عبدالعزيز -يرحمه الله- وقد ساهمت العديد من العوامل في تكوين شخصية الملك سلمان وتأهيله للزعامة التي يحسبها الجميع طبيعية، ومن أبرزها النشأة الدينية المبكرة، حيث تلقّى تعليمه في مدرسة الأمراء بالرياض، وأتم حفظ القرآن في العاشرة، كما جمع في تعليمه بين تلقي العلوم الشرعية على أيدي كبار العلماء والمشايخ، والتثقيف الذاتي من خلال القراءة والاطّلاع، ممّا أهّله مبكرًا ليحصل على لقب «رجل المهمّات الصعبة». والملك سلمان صاحب صلة يومية متجددة بالقرآن الكريم، حيث لا يترك ورده القرآني في حضر أو سفر، ويتم القرآن في رمضان ثلاث مرات، وفي كل شهر من العام مرة. صداقة الكتاب وساهم في بناء التكوين المعرفي للملك سلمان -يحفظه الله- شغفه بالمعرفة، وصداقته الدائمة مع الكتاب المقروء على وجه الخصوص، حيث يقول: «دون تقليل من مكانة وقيمة الفضائيات والإنترنت، وما يبتكر بعد ذلك من وسائل، فإنى أؤمن بأن الكتاب سيظل حامل المعرفة الرصينة، والثقافة الراقية، فالكلمة المكتوبة كانت سجل الحضارة والإنسانية، ولاتزال»، والملك سلمان لا يكتفى بالقراءة في مجال الإدارة والسياسة فقط، وإنما يحرص على صداقة الكتاب خاصة في السفر، ولفرط عشقه له يضم بيت المليك مكتبة خاصة بها أكثر من 60 ألف مجلد، وأكثر من 18 ألف عنوان، تنمو بصورة يومية. ولعل العامل الثالث الذي ساهم في صقل شخصية المليك الموسوعية، اطّلاعه الواسع، وانفتاحه على المجتمع، وتفاعله مع أبناء الوطن، ومشاركتهم الأفراح والأتراح حتى أصبح نموذجًا يُحتذى به في تقدير الناس لدى الأسرة الحاكمة والمسؤولين. يقول زين العابدين الركابي في كتابه «سلمان بن عبدالعزيز.. الجانب الآخر»: إذا حاورت الملك سلمان في شؤون الوطن العربي، وأحوال العالم الإسلامي، والأوضاع الدولية، وجدت عنده آخر الأنباء والمعلومات، وهي ثمرة علو الهمّة»، ويواصل رسم الصورة قائلاً: «وفي الشأن العربي والإسلامي يتحدث الملك سلمان عن تاريخ الخمسين سنة الماضية، وكأنه يقرأ من كتاب، وقد رصد الوقائع بشخصياتها، ورموزها رصد المؤرّخ المحقق، والمثقف الذي يحمل هموم الأمة، والسياسي المسؤول، والمحلل الذي يجمع بين رصد الحالة وتحليلها بعقلانية صارمة». أسس الدولة وللملك سلمان العديد من الآراء والأفكار المنشورة في وسائل الإعلام، تناول فيها بعض القضايا التاريخية بالتوضيح والبيان، ومنها ألاّ يترك تاريخنا الوطني ساحة مفتوحة للآراء التي لا تعتمد على دليل «كما يشير في إحدى محاضراته إلى مقومات الدولة السعودية قائلاً: «قامت دولتنا على القرآن والسنة، وليس على قومية ضيقة، أو عصبية مقيتة، وهذا ما جعلها هدفًا للأعداء الذين حاولوا -ومازالوا يحاولون- سلخها من عقيدتها؛ لأنهم يعلمون أنه متى تخلّت عنها، فإن ذلك إعلان صريح بزوالها»، ويستطرد في رؤيته الفكرية بالقول: «إن أعداء أساس هذه الدولة هم الذين يغالون ويتطرّفون باسم الإسلام، وهو منهم براء، ويصبحون أداة هدم وإرهاب، وديننا يحث على الوسطية، لا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء»، وعلاقة الملك سلمان بالكتاب لا تتوقف عند القراءة والاطّلاع، بل تمتد إلى مجال دعم طباعة الكتب على نفقته الخاصة، والتعقيب على ما قد يرد فيها من آراء تحتاج إلى تصويب في بعض الأحيان، كما بادر الملك سلمان بسنّ سنة حسنة للباحثين والباحثات والمواطنين، حين أهدى عددًا من المخطوطات والوثائق إلى دارة الملك عبدالعزيز، وذلك في دعوة علمية لأصحاب المصادر التاريخية للتعاون مع الدارة من أجل الحفاظ على الثروة العلمية الوطنية، ومساعدة الباحثين، وتحتفظ الدارة بمجموعة من الوثاثق والمخطوطات التي قدّمها الملك سلمان، ومنها مصحف محلي مكتوب بخط النسخ، وعليه تاريخ النسخ في عام 1220هـ، ونسخة من مخطوطة من كتاب الوحيد للشيخ محمد بن عبدالوهاب التميمي. ملك الوفاء والملك سلمان شغوف بالتاريخ لاقتناعه الراسخ بأهميته وضرورة الاستفادة منه، ولهذا أطلق جائزة ومنحة الملك سلمان لدراسات تاريخ الجزيرة العربية، وجائزة المقالة العلمية في التاريخ وجائزة أفضل رسالة دكتوراة، ومنحة الدراسات والبحوث، ولا شك أنه ليست هناك أي مبالغة عندما يوصف سلمان بملك الوفاء الذي يُعدُّ خصلة فطرية، وسلوكًا خلقيًّا جُبل عليه، ووفاؤه لا يقتصر على إخوانه من الملوك والأسرة المالكة، بل تخطاه إلى أبناء شعبه ومجتمعه، فهو يقدر الكبير، ويزور المريض، ويشارك في الأفراح، ويعزى في الأتراح، ويسأل عن الغائب، ونادرًا ما يخلو حديث له عن قيمة الوفاء، أو التذكير به. ومن شدة وفائه وقربه من الناس يعتقد كلُّ مَن عرفه أنه هو الأقرب إليه. وإذا توقفنا أمام عوامل أخرى في شخصية الملك سلمان، فسنجد السمة الأبرز في أداء كل ناجح، وهي الانضباط والتنظيم ووضوح الرؤية الفكرية، حيث المليك نموذج يُحتذى في العمل، وتقدير الوقت إلى حد الوصول إلى مكتبه قبل الموظفين. يقول زين العابدين الركابي في موضع آخر من كتابه عن الملك سلمان: «كنت أسمع أن موظفي الإمارة يضبطون ساعاتهم على وقت مجيئه»، كما يتمتع بقدرة فائقة على اتّخاذ القرار بالمكان والمناسبة اللازمتين لنجاح القرار، ويتميّز بالفكر الخلاّق، والنزعة إلى التنوير في إطار نظريته للإبداع «في ظل لا إله إلاّ الله». نموذج في الاهتمام بالعائلة وعلى الرغم من مشاغله المتعددة، إلاّ أن الملك سلمان على المستوى العائلي يُعدُّ نموذجًا للحزم والحكمة والمودة والرحمة، مقتديًا في ذلك بوالده الملك المؤسس الذي قال عنه: «الملك عبدالعزيز كان يتفقدنا في الصلاة في الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وكانت تربيته الحزم مع أبنائه في الأشياء الأساسية المتعلّقة بعقيدتهم وصلاتهم، وتهذيب سلوكهم وتعاملهم مع شعبهم، وكان في الوقت نفسه يتعاطف ويتفكه معهم، ويرعاهم باستمرار، ويسأل عنهم، ويحنو عليهم إذا مرضوا»، وعلى هذا النهج سار الملك سلمان حريصًا على أن يتناول أبناؤه معه الغداء يوميًّا، كما يتابعهم في الدراسة والتعليم، ويقترح عليهم بعض الكتب ليقرأوها دون إلزام معين. وإذا كان الملك سلمان دارسًا واعيًا لحركة التاريخ، فليس ببعيد عن ذلك أن يكون داعمًا قويًّا للحركة الثقافية في المملكة، وعن هذا يقول -عندما كان يتولّى وزارة الدفاع-: «إننى موجود في وزارة الدفاع، ولكنني منتمٍ إلى الحركة الأدبية والثقافية، ومستعد لأي دعم تطلبه الأندية الأدبية والثقافية بشكل عام»، وتجلّى ذلك في حماسه المبكر لأن يكون لنادي الرياض الأدبي مبنى مستقل منذ عام 1424هـ، كما أنه يرأس مجلس دارة الملك عبدالعزيز التي حوّلها من مكتبة إلى مركز بحوث متخصص نوعي على مستوى العالم فيما يخص الوثائق والمخطوطات. يقول الأديب سعد البازعي: «الملك سلمان معروف عنه صداقته للمثقفين والمنتمين للوسط الثقافي على المستوى العربي والعالمي، فهو قارىء دقيق ومتابع لما يُنشر في وسائل الإعلام، وفي علاقته مع ما ينشر في الصحافة يتعامل معها كالقارىء المتذوق قبل تعامله معها كمسؤول». زعامة بالجينات الوراثية ويُعدُّ الملك سلمان من القادة القلائل، الذين يمتلكون روح الزعامة بالجينات الوراثية من الملك المؤسس -يرحمه الله- وقد تأصّلت التجربة ونضجت منذ سنوات مبكرة، لما وهبه الله من قدره على القراءة الجيدة للمواقف، والاستشراف المستقبلى، ولعل من أكثر الصفات التي يتميّز بها -حفظه الله- الحزم والفراسة والفطنة والحضور الذهني، وهي من بين الصفات التي ورثها من الملك المؤسس، وهي صفات لا تجتمع إلاّ في قائد فذ مثل سلمان، ويشهد كل من التقى به أن الحزم والحكمة من أبرز السمات التي يتميّز بها، ويتضح ذلك في المتابعة الدقيقة لكل شؤون الحكم، والحرص الشديد على الاستماع لأصحاب المظالم والشكاوى، وتوجيه المسؤولين لمتابعتها وموافاته بالنتائج. والملك سلمان يُعدُّ مرجعية سياسية وتاريخية وإعلامية هامة للخبرات الكبيرة التي تميّز بها من عمله بجانب الملوك السابقين -يرحمهم الله جميعًا- والتمرّس في الكثير من شؤون الدولة، وقد حبا الله الملك سلمان رؤية ثاقبة، وقدرة على التحليل والاستشراف في صنع القرار، ولذلك كانت القرارات السياسية التي يقدمها أقرب إلى الواقع. إمارة مبكرة وظهرت على الملك سلمان علامات النبوغ المبكر منذ نعومة أظفاره، ممّا أهله إلى العديد من المناصب في سن مبكرة، وقد كلف وهو في التاسعة عشرة من عمره بتولّى إمارة منطقة الرياض، بالنيابة عن أخيه الأمير نايف بن عبدالعزيز، وقد اتّسمت إدارته لهذه المدينة الفتية بالاستيعاب الشامل لكل احتياجاتها التطويرية والتخطيطية، فضلاً عن الجوانب الثقافية والعمرانية والبيئية، وكان لرؤيته دور كبير في أن تسبق مدينة الرياض عصرها بسنوات، وتحت قيادة سلمان الخير وعلى مدار 50 عامًا تحولت الرياض من بلدة صغيرة تحيطها الأسوار إلى مدينة عصرية ذات تأثير اجتماعي وسياسي واقتصادي ليس على المستوى المحلي، فحسب وإنما على المستوى الإقليمي والدولي أيضًا، ولوفائه الشديد وحبه لها قال عنها «لا أتخيل نفسي بعيدًا عن مدينة الرياض حتى لو لم أكن موجودًا بها، فالرياض بالنسبة لي الوطن والتاريخ والحاضر والمستقبل والأمل «ويواصل الحديث المشبع بالحب عن الرياض بالقول»، منها قام والدي بوثبته العملاقة الكبرى التي غيّرت مجرى تاريخ الجزيرة العربية، وفيها ولدت وترعرت وتربيت على أيدي الملك المؤسس الذي غرس في قلبي وقلوب أبنائه حب الوطن والتفاني من أجله. ويظل الاعتدال والوسطية منهج الملك سلمان في التعامل مع الآراء والأفكار، وفي هذا الصدد يحسم الأمر بالقول «إن نهج هذه الدولة منذ أن تأسست، غلا من غلا، وفرط من فرط، فالأكثرية الغالبة في هذه البلاد هم أمة الوسط، والحمد لله»، هكذا هو سلمان متفرّدًا في الإدارة والرؤية والحكم عن علم وبصيرة منذ سنوات عمره الأولى.