كلما انفتحنا على مكتبتنا العربية القديمة تورّطنا أكثر بقصورنا عنها وجفائنا لها، أو حتى تسفيه أحلام أجدادنا فيها.. إما اتكاءً على مواقف تاريخية سابقة صودرت فيها الكتابات وقمعت فيها الشكوك والحريات أو حتى لعقدة نقص جعلتنا نبحث عن حاجاتنا في جيوب غيرنا دائما.. الحضارة الغربية المبهرة أخذت منا ما أسقطناه عنا في اجتهادٍ أولي يقاوم التغيير والتفكير وبنت عليه فنونها وحضارتها وسؤالها الدائم في الوجود.. لن أتوقّف هنا عند تلك الأطروحات الفلسفية التي تصادمت مع الدين بشكل مباشر.. لكنني حتما سألتقط منها ما جاء فنّا خالصا تخلّقت منه رؤى وسير غاية في التأثير الفني.. فرحلة حي بن يقظان لابن الطفيل وهي الأطروحة التي انطلقت من ابن سينا حينما كان في سجنه وافترّت على يد شهاب الدين السهروردي، وانتشرت وذاعت من قبل الفيلسوف الأندلسي ابن الطفيل.. هذه الرحلة المدهشة بدءا بالرؤية العميقة في مسمى الشخصية فهو (حيّ) (يقظان) ولكلا الاسمين دلالة عظيمة على مستوى الرؤية وانتهاء بقدرة هذه الفلسفة على خلق أساطير وجودية كثيرة لعل أهمها شخصية طرزان الحاضرة في الأدب العالمي بكل لغاته وعصوره.. هذه الرحلة وبقاؤها في منطقة الظل بالنسبة للمقروء فينا أو حتى المسكوت عنه في أطروحاتنا الثقافية التقدّمية عند أجدادنا، ظلّ مؤثرا جدا في توثيق فنوننا وأنواعها.. فالشائع لدينا على سبيل المثال أن أول رواية عربية كانت رواية زينب لهيكل في عام 1917م.. لكننا بعودة سريعة لمكتبتنا القديمة سنكتشف أننا كتبنا الرواية قبل هذا التاريخ بقرون فكثير من كتب التاريخ لدينا عبارة عن روايات تقدّمية بل إن رحلة حي بن يقظان السالفة الذكر واحدة من أهم رواياتنا العربية المبكرة جدا حتى بالنسبة للرواية الغربية.. وبعيدًا عن أطروحات أجدادنا الفلسفية الفكرية والمحاذير المتعلقة بها سأنتقل في جانب آخر لكتابات أجدادنا في اللغة على الأقل على مستوى الصوت وأعرّج على كتاب الخصائص لأبي الفتح عثمان بن جني.. ففي هذا الكتاب أطروحات مدهشة جدا على مستوى التواشج الصوتي في المفردات ودلالات المعاني وغيرها من الشؤون المدهشة جدا في فلسفة اللغة ومع هذا لايحضر هذا الكتاب في ذاكرتنا المكتبية إلا قليلا.. نحن بحاجة ماسة إلى إعادة الثقة في مكتبتنا العربية القديمة وتخليص رفوفها من الأسلاك الشائكة التي ظلّت تطوّقها لقرونٍ عديدة..!