تعيش روسيا أزمة اقتصادية هي الأصعب في تاريخها الحديث، ويقر صناع السياسة الاقتصادية في موسكو أنها الأقسى والأعمق بين أخرى سابقة شهدتها في أعوام 1998 و2009. ويُجمع الخبراء والمسؤولون على ضرورة إيجاد نموذج جديد للتنمية لا يعتمد على واردات النفط والغاز والخامات. الأزمة، ولو برزت إلى العيان مع ازدياد العقوبات الغربية على روسيا على خلفية ضم القرم والتدخل في الشؤون الأوكرانية ودعم الانفصاليين عن كييف، فهي بدأت منذ تراجع معدلات نمو الاقتصاد الروسي عام 2011، بعد التعافي الموقت من الأزمة الاقتصادية العالمية التي أثرت بقوة أكبر على روسيا. وتكمن أسباب الأزمة في عدد من النقاط أهمها بنية الاقتصاد الروسي ذاته واعتماده المفرط على واردات النفط والغاز التي تشكل نحو ثلثي واردات الخزينة، بعدما كانت في مطلع الألفية لا تتجاوز 48 في المئة منها، والتأخير في برامج تحديث الاقتصاد وبناء الصناعات وتطوير الزراعة بما يكفي لتغطية الطلب الداخلي، وبقاء الأمر في إطار الشعارات الانتخابية من دون تنفيذ واضح على الأرض، والتركيز على تأسيس الشركات الضخمة في مجالات الصناعة المتنوعة عبر تشكيلات بيروقراطية لم تخرج عن اطار الاقتصاد المركزي المخطط في الحقبة السوفياتية (شركة قابضة لصناعة السفن، الأسلحة، الطائرات، تقنيات النانو ...). ومن العوامل المسببة للأزمة أيضاً ضعف قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة الذي لم يتجاوز 15 في المئة من بنية الاقتصاد الروسي، على رغم البرامج المتواصلة منذ عشر سنوات، فيما تتجاوز هذه النسبة 70 في المئة في الاقتصادات المتطورة، إضافة الى الفساد الإداري وتفشي الرشوة والبيروقراطية المفرطة، وعدم وضوح القوانين وغياب الفصل التام للسلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية، وأخيراً المناخ السياسي العام وأثره في قطاع الأعمال، وأهم تجلياته ضربات دورية يوجهها الكرملين إلى المعارضين، أو غير الموالين كلياً لسياساته. وفي تقاريره الأخيرة، توقع صندوق النقد الدولي انكماش الاقتصاد الروسي خلال العام الحالي نحو 3 في المئة، وواحد في المئة العام المقبل. وتظهر توقعات المؤسسة الدولية أكثر تفاؤلاً من تقارير بعض المراكز البحثية، التي ترجح تراجع الناتج نحو 8 في المئة. وتشير تقديرات أولية لصناع السياسة النقدية والمالية في موسكو، إلى خسارة تصل إلى مئتي بليون دولار سنوياً بسبب تراجع أسعار النفط إلى نحو خمسين دولاراً للبرميل، إضافة إلى تأثير العقوبات الغربية المفروضة على روسيا بعد ضمها شبه جزيرة القرم. وتتضارب تصريحات المسؤولين الروس حول عمق الأزمة الاقتصادية الحالية مقارنة بالأزمات السابقة، وكذلك حول المدة المتوقعة للخروج منها وتعافي الاقتصاد في شكل كامل. ففيما اعتبر وزير التنمية الاقتصادية ألكسي أوليكايوف «تجاوز الأسوأ ووصول الأزمة إلى أدنى نقطة»، رأى النائب الأول لرئيس الوزراء، المسؤول عن السياسة المالية والاقتصادية في الحكومة إيغور شوفالوف، العكس، متوقعاً «العيش في ظروف الأزمة لمدة لا تقل عن عشر سنوات». ومع تراجع سعر صرف الروبل في مقابل الدولار، لا يستبعد أن «يرتفع التضخم هذه السنة إلى نحو 20 في المئة، وهي معدلات لم تشهدها روسيا منذ مطلع الألفية، وستتسبب في تراجع الدخل الحقيقي للمواطنين بما بين 5 و10 في المئة للمرة الأولى منذ نهاية تسعينات القرن الماضي. وما يزيد الطين بلة، احتمال استمرار الهبوط الكبير للروبل خلال هذه السنة بعدما فقد نصف قيمته العام الماضي، علماً أن القيمة الحقيقية لسعر الصرف تتراوح، بحسب خبراء، ما بين 48 و53 روبل للدولار في حال استقرار أسعار خام «برنت» حول 60 دولاراً للبرميل. لكن بعض الخبراء يذهب إلى أن الحكومة والمصرف المركزي، ربما يعملان على كبح نمو الروبل لتخفيف العجز في الموازنة الفيدرالية (أكثر من نصف دخل الموازنة من مبيعات النفط والغاز بالدولار، والنفقات بالروبل). ويجمع الخبراء على أن هذه الأزمة هي الأقوى التي تعصف بروسيا ما بعد السوفياتية مقارنة بأزمتي 1998 و2008-2009، إذ رفع تعويم الروبل الفائدة على القروض. كما يمكن أن يؤدي عدم وضوح الرؤية المستقبلية حول نهاية الصعوبات الاقتصادية إلى خفض الاستثمار وتراجع الانتاج، بسبب المخاوف من ضعف الطلب الداخلي الذي كان محرك النمو خلال العامين الأخيرين. ويُتوقع أن ينخفض الاستهلاك المحلي نحو 8 في المئة، وفق أحدث تقديرات وزارة التنمية الاقتصادية. وتزداد المخاوف من حملة تسريح للعمال، وهو ما بدأ عملياً مع توجه الشركات الكبيرة إلى تقليص الكادر الاداري، لكن تراجع الطلب قد يجبرها على خفض الانتاج وتسريح عدد من العمال في الخطوط الانتاجية، أو تخفيف ساعات العمل، أو حتى منح عطل غير مدفوعة الأجر، كما جرى أثناء الأزمة الأخيرة. وأعلنت شركات كثيرة أنها بدأت تقليص برامجها الاستثمارية. ويشكل رفع سعر الفائدة الأساس، والعقوبات الغربية المفروضة، ضربة للقطاع المصرفي الروسي، وسيتأثر القطاع داخلياً بتدهور مداخيل المواطنين وزيادة القروض المتعثرة. لكن العقدة الرئيسة تتمثل في استمرار إصرار الحكومة على نفقات دفاعية كبيرة تصل إلى نحو ثلث الموازنة، ولا تستطيع خفض النفقات الاجتماعية التي تتجاوز 21 في المئة، ما يعني عدم وجود موارد كافية لمزيد من الاستثمار في مشاريع البنية التحتية وغيرها، التي تساهم في تسريع خروج روسيا من أزمتها. وفي وقت يتفق الخبراء وأعضاء الحكومة الروسية على ان زمن الاصلاح الحقيقي حان أوانه، وعلى ضرورة استغلال هذه الفرصة لأن أسعار النفط بحسب التوقعات ستبقى أقل من 85 دولاراً في السنوات المقبلة، يشكك آخرون في جدية السلطات في محاولاتها لتنويع مصادر الدخل ومباشرة الاصلاحات المطلوبة. وعلى رغم التفويض الشعبي الواضح للرئيس فلاديمير بوتين والذي تكشف عنه نسب الشعبية المرتفعة على رغم الأزمة الاقتصادية الطاحنة، لجأت السلطات إلى حرف انتباه الشعب عن الأزمة الاقتصادية والطرق الواقعية لحلها، برفع نبرة الخطاب القومي والتغني بأمجاد روسيا وعظمتها في الحقبتين القيصرية والسوفياتية. ويُستبعد اقدام الحكومة على إصلاحات جذرية على رغم تصريحات شوفالوف الأخيرة في دافوس، والتي أكد فيها أن «الاقتصاد الروسي يحتاج إصلاحات هيكلية أكثر عمقاً، لأن أي فهم حقيقي قد يختفي فجأة في حال بدأت أسعار النفط في الارتفاع». لكن التجارب السابقة تكشف أن الحكومات المتعاقبة لم تستغل السنوات العشر السمان الماضية في ظل ارتفاع أسعار النفط والغاز، من أجل بناء اقتصاد قوي متنوع بل على العكس زاد الاعتماد على الطاقة ما عطل تحديث الاقتصاد وتنويع مصادر دخله. بعد سنوات البحبوحة ربما بات على الروس العيش لسنوات في ظل ظروف جديدة أكثر صعوبة، ولكن السؤال هو مدى قدرة الروس على التكيف في ظروف الأزمة. وربما بات على الحكومة العمل بجدية أكثر لمنع أي اضطرابات قد تظهر بسبب الأزمة. وعلى السلطات المالية والنقدية إيجاد حلول لاستمرار هجرة رؤوس الأموال المتوقع بلوغها هذه السنة نحو 115 بليون دولار مقارنة بـ 150 بليوناً العام الماضي. علماً أنها لم تتجاوز 60 بليون دولار عام 2013. كما يجب على الحكومة التفكير في كيفية رفع الاستثمار في رأس المال الأساس، المرجح أن يتراجع إلى أقل من معدلات عام 2009، إلى 13 في المئة. وواضح أن احتياطات روسيا من العملات الأجنبية التي هوت في منتصف الشهر الجاري إلى 379.4 بليون دولار، وهو أدنى مستوى منذ آذار (مارس) 2009، لا تستطيع تغطية كل حاجات البلاد وطوابير الشركات الراغبة في مساعدة الحكومة للوقوف في وجه الأزمة. وأخيراً ربما تكون الاصلاحات الهيكلية في الاقتصاد والانفتاح السياسي، ومحاربة الفساد والبيروقراطية، وتحسين المناخ الاستثماري والتنافسية، وتطوير البنى التحتية، عصا بوتين السحرية. خطوات تبدو صعبة لكنها من دون شك، أفضل من الانجرار إلى سباق تسلح جديد، ينهك روسيا اقتصادياً ويجعلها أقرب ما تكون إلى حقبة السنوات الأخيرة للاتحاد السوفياتي.