رَزَحَتْ سورية، على مدى عقودٍ من الاستبداد، تحت بروباغندا عنفيةٍ دأبتْ على أدْلجة السلاح، وتدجين السوريين على هذه الأدلجة بأساليب مستوحاة من الإرث السوفياتي العتيد. فقد اعتاد التلاميذ السوريون (وكنتُ منهم في الثمانينات والتسعينات) التوجّه إلى مدارسهم بملابس «الفتوة» المشابهة لملابس العسكر بسيدارات وأبواط سوداء، للوقوف صباحاً في طوابير مُعَسْكرة، وحضور حصصٍ «درسيةٍ» مخصصةٍ للتربية العسكرية، مع ترديد الشعارات، وحفظ أقوال القائد المُفَدّى الملهَم، فضلاً عن طقوس «طلائع البعث» و «شبيبة الثورة» والقفز عبر حلقات النار، والقتال بالسلاح الفردي والقفز المظلي، ومخيمات التدريب العسكري الجامعي إلخ. كانت عسكرة الجيل الصاعد سرطاناً يكتسح العملية «التعليمية والتربوية»، ويفرِّغها عملياً من محتواها «التعليمي والتربوي». وحتى حين خفّت وطأة هذه البروباغندا على مستوى الممارسة، واختفت بذلة «الفتوة» الخضراء لتحل مكانها البذلات «المدنية» بألوانها الزرقاء والرمادية، حافَظَ الخطاب على طابعه المعسكر، وبقي شبحه مبثوثاً في أركان المدارس والمراكز الثقافية والمنابر الإعلامية، مُبَدِّلاً شعاراته من «الدفاع المشترك» إلى «الصمود والتصدي» إلى «المقاومة» إلى «الممانعة» وغيرها. كل ذلك بحجة إعداد شبابٍ تقدميٍّ يحافظ على الوحدة الوطنية، ويدعم حركات التحرر في العالم، ويواجه الإمبريالية والرجعية والاستعمار. التقتْ هذه العسكرة الرسمية «العلمانية»، وفي صورةٍ لافتةٍ، مع إرثٍ متراكمٍ ومتخمٍ من العسكرة التراثية: العسكرة القادمة من عُمق التاريخ، من غبار القرون، من الماضي المُحْتَفَى به، لتجد حضوراً لها، بكلِّ براءةٍ، في حصص التربية الدينية، وعلى منابر الصلاة في بيوت الله، وفي حلقات ودروس الذِّكر، وعلى مستوى المجتمعات المحلية سواء كانت مهمّشةً أو مرفهة، فضلاً عن الحكايات والمرويات الشعبية التي تُعلي من بطولةٍ يصعب فيها عزل التاريخي عن الميثولوجي (حكايا أبي زيد الهلالي وعنترة، وقصص الصحابة والفتوحات). في كلتا الحالتين، العسكرة الرسمية والعسكرة التراثية، يأخذ العنف موقعاً كرنفالياً جذّاباً، إذ تُسْبَغُ القداسةُ على فكرة القتل تحت رعاية السلطة السياسية/الدينية، ويُدْمَجُ المُتَعَالي مع نصل السكين وسبطانة البندقية، ويُهْدَى الدمُ البشري قرباناً لهدفٍ أسمى يتجاوز حدود المحسوس والمُعاش. وبوجود الديكتاتوريات المصابة بجنون العظمة في بلداننا الحزينة، غدا هذا العنف الكرنفالي ذا حضورٍ فانتازي مضاعف يختلط فيه تاريخ الفتوحات، ويُخْتَصَرُ في تاريخ القائد! وعليه تغدو حرب تشرين استرجاعاً لأمجاد حطين، ودمشق عاصمةً مشتركةً للأمويين ونظام البعث، ويغدو الحصان أداةً تجمع الماضي بدبابة الحاضر، وخطاب القائد تذكيراً بخطاب طارق بن زياد، أما السيف والعباءة فرموزٌ تعيد تشكيل مفهوم البطولة في أوسمة الجنرال: حبكةٌ قادرةٌ، على رغم ضعفها، على أن تنسف وعي أجيالٍ بأكملها، بعد أن تخلط المفاهيم في سرديةٍ تاريخيةٍ مفبركة، لتفرضها على، وتلوي بها، عنق التاريخ. بالتوازي مع هذه العسكرة الرسمية والتراثية، وطقوسها المقدسة أرضياً وسماوياً، نجد على المستوى الاجتماعي/الشعبي حضوراً للعسكرة الثقافية النفسية بطقوسها التلقائية، تلك التي تفرض ذاتها عفوياً على التكوين الذهني للمكونات السكانية في المنطقة، وتجعلها مهيأةً للخضوع للعسكرة ولتلقي وممارسة العنف، واعتبار كل ذلك وضعاً مُسَلّماً به لا تمكن مساءلته: بدءاً بفروض الطاعة العمياء على مستوى الأسرة والحارة والحي والجماعة، وليس انتهاءً بموروثات الاضطهاد الجندري والتحيز المناطقي والاحتقار المذهبي. ويمكن القول إن هذه العسكرة الاجتماعية كانت السبب في استفحال العسكرة الرسمية والتراثية، عبر تواطئها مع كلٍّ منهما، وخضوعها الطوعي المستكين لهما. تضافرت أشكال العسكرة، الرسمية والتراثية والاجتماعية/الشعبية، لتشكل عمليةً معقدةً تختبئ خلف قناعٍ كثيفٍ من الخطابيات المُبْهِرَة التي تتلاعب بالمشاعر والعواطف، وتوقظ الغرائز، وتخدر العقول. وقد ترك كل ما سبق آثاره في عمق الذهنية الجمعية فارزاً، وعلى مدى مراحل تاريخية طويلة، كمّاً هائلاً من بذور الكراهية والعنف المكبوت، ذاك العنف غير المدَوَّن، وغير المترجم، وغير المُعَبَّر عنه في ممارسةٍ عنفيةٍ واضحة. وعلى سبيل المثال يمكن تتبع نتائج هذه العسكرة، وما فرزته من عنفٍ مكبوت، على المستوى الفني، في انحدار الذائقة الجمالية وبروز أعمال الدراما المحلية (التي تداعب الممارسات الاستبدادية السائدة المشبعة بالعنف والذكورة والعنتريات وتكسير الرؤوس)، وعلى مستوى الجنايات والجرائم (التي ارتفعت وتيرتها في المجتمع السوري في العقد الأخير)، وعلى مستوى تعامل الناس في حياتهم اليومية (حيث غدت التعاملات أكثر ضيقاً وتذمراً وأقل تمدناً). لقد عمل هذا العنف المكبوت، وهذا الالتزام المُصْمَت بثقافة العنف (بالتآزر مع عنف الثقافة) الخارجة عن الإرادة الفردية، وهذا التَّمَوْضُع الهرمي الصارم لعلاقات القوة، على تدجين إرادة الفرد وقمعها وترويضها وتسخيرها في سبيل غاياتٍ تُصَوَّرُ على أنها غاياتٌ عظمى، كما عمل على خلق كمونٍ عنفي كبيئةٍ جاهزةٍ تنتظر اللحظة كي تتفجر. بأخذ هذه العوامل وتراكماتها وتشابكاتها التاريخية في الاعتبار، يمكن إلى حدٍّ ما تفسير جوانب من العنف المهول الذي اكتسح المشهد السوري خلال السنوات القليلة الماضية. لكن ما تغير الآن، في سياق المأساة التي تطحن سورية، أن الممارسة العنفية (والبروباغندا العنفية التي تقف وراءها) خرجت من نطاق الفكرة، ولم تعد مقتصرةً على الخطاب، كما لم تعد مُلْكاً حَصْرياً للنظام فقط، أو حِكْراً على أجهزة الدولة التي يفترض أن يتم بناؤها. فقد تجاوزت الممارسة والبروباغندا العنفية كل ذلك لتصبح بضاعةً مشاعيةً معروضةً للتداول، في سوق الدم السوري، من قبل أمراء الحرب وتجار الدماء والمتسلقين والأشقياء. نحن نعيش زمناً تدفع فيه منطقتنا ثمن الأدلجة العنفية التي عشّشت في مفاصلها، زمناً يهمّش البعد الإنساني في ثقافتنا، عبر ترسيخ عقليةٍ تؤمن بالعنف كهدفٍ تكتمل به الرجولة. فإنسان المنطقة لم يعد مجرد أداةٍ تهتف لتحيي الخطاب العنفي، بل بات قطعةَ سلاحٍ، وجسداً مقتولاً، وحطباً يحترق لتشتعل المحرقة. ومهما كانت هوية هذه المحرقة، بعثية أو إسلاموية أو قومية أو شيوعية، حالمة أو نفعية، فهي محرقةٌ تجتاح وتأكل كل من يقف في طريقها، تاركةً وراءها رماداً وقصصاً، وكثيراً من الآلام، وقليلاً من العِبَر.