لا أدري كيف أفسر لنفسي ذلك القمع العنيف الذي يمارسه بعضنا تجاه الطفل الذي يقبع في زاوية ما بداخلهم؟ هذا السؤال يخطر ببالي كلما رأيت أحدهم لا يتغير ولا يتبدل في كل الأحوال! أعرف أشخاصاً منذ سنوات طويلة يخافون حتى من الضحكة، ويقاومون المواقف البسيطة المبهجة، ويستنكرون على غيرهم بساطتهم وانتعاش روح الطفل فيهم. أولئك وضعوا أنفسهم في قوالب ثابتة، فلا هي تبلى ولا هم يذوبون ليعيدوا تشكيل أرواحهم من جديد. ولا يمنعهم من ذلك كبر أعمارهم فقط، بل طبيعة عملهم لها دور أيضاً، فيتوهمون أن التصرف الطبيعي يتناقض مع الشخصية العملية المعروفة عنهم، فلا يستطيعون ممارسة اللهو الإنساني البريء، ونزع ثوب الجدية من حين لآخر، وهذا ينمي الرغبة القوية بداخلهم بعدم الخروج، ويؤازرها خوف شديد من أحكام الآخرين عليهم، فمقولة: ماذا سيقول الناس عني، تشكل عائقاً كبيراً بينهم وبين أنفسهم؛ لأنهم يريدون أن يكونوا نموذجاً مثالياً بالطريقة التي يفهمون بها المثالية، والتي يراها غيرهم أقرب إلى «الجلافة» الرسمية الموحشة التي قد تصنع لهم إطاراً يحبونه ويرضون به، وتلك المواصفات قد تجدي نفعاً في بعض المواقع، ولكنها تتحول إلى صخرة صلدة تسحق انسانيتهم برضى تام منهم. الغريب أن الناس أحياناً يفسرون ذلك التصرف حين يظهر ممن له مكانة عالية في المجتمع بأنه متواضع!! ولا أعد ذلك تواضعاً، بل هو تصرف انساني طبيعي جداً يقاومه بعض الناس، وأعتقد بشبه الجزم أن أولئك يتألمون تحت ضغط تلك الصورة التي تحبس أنفسهم وتفتت مشاعرهم ورغباتهم البسيطة في كثير من الأحيان، ولكنهم يقنعون أنفسهم بالقوة أن لكل سن ومكانة متطلبات، وأن بعض التصرفات غير لائقة! وغير ذلك من التبريرات التي تنتزع منهم روح الطفل. والأسوأ لو كان هذا الشخص كبيراً منذ طفولته وغارقا في تحقيق نموذج العاقل الرصين الذي لا يعرف سوى كتبه وأقلامه والسعي لتلبس حالة ما رآها أو قرأ عنها تماماً، مثل (مصطفى) الذي صار نموذجاً لهذا النوع من الناس، وللعلم فإن مصطفى سيبقى على حاله حين يكبر ليس في الدرس فقط، وإنما في الحياة بشكل عام. في سيرة المصطفى «صلوات الله عليه» كثير من مشاهد الترويح عن النفس والضحك واللعب مع أحفاده وزوجاته، فلماذا يربط بعضهم بين الجدية والرسالة والرؤية لحياته وبين رفض الانطلاق والضحك والمشاغبة والترويح عن النفس بلا إفراط ولا تفريط؟ ربما أشرت غير مرة إلى أني كنت طفلة مشاغبة جداً في البيت كما في المدرسة، ثم انتقلت لي عدوى (مصطفى) في وقت ما، ولكن ظل ذلك محصوراً في نطاق الدراسة والعمل، إلا أن الطفلة بداخلي كانت وما زالت ترفض مصاحبة مصطفى الجاد الرزين في كل حين، ولا يخلو الأمر من مواجهة الاستنكار في الوجه وخلف الظهر، ولكن بالمقابل كنت أكسب حياة متوازنة إلى حد ما. إن بعض الناس يسعى إلى اكتساب تلك المرونة من خلال التدرب على ذلك، ومحاولة تمزيق النماذج التي أساءت لحياتهم، ولكن المؤسف انه ليس الجميع لديه القدرة على ذلك، فقد يخطئ ويظن أن الأمر شكلي فقط، فيختار لباساً لا يليق به أو يتكلف ذلك فيظهر متصنعاً يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، حتى يكاد أن يغلق الأبواب لكي لا يرى الناس ضحكته!! نعم هناك كثير في مجتمعنا يتعاملون مع أنفسهم بهذه الطريقة المرعبة، وهي نوع من العنف تجاه الذات.. وحتى لا يظن بعضكم أن المطلوب هو التحول إلى مهرجين، أقول: ان الفارق انت تملك التحكم فيه، مثل شعرة معاوية بينك وبين نفسك، ولهذا نرى شخصيات رائعة لها هيبتها ورزانتها فيما يتطلب ذلك، ولها انفتاحها وروعة انطلاقها في أماكن أخرى، وتعرف كيف تعرض الجانبين أمام من يتعامل معها ويسعد بذلك في الحالين؛ لأن الحياة حلوة «بس نفهمها». عضو هيئة التدريس بجامعة الدمام