كما عرفها جميع من حولها فتاة مهذبة ذات خلق رفيع تحسن التعامل مع الآخرين، عُرف عنها أيضاً شدة برها بوالديها وطاعتها لهما بكل الحب، فلم يُعرف عنها أنها قد أعلت صوتها عليهما، أو أنها قالت لأحدهما: لا.. بصوتٍ مرتفعٍ في يوم من الأيام، ولا أن تعترض على قرارٍ رأوه لها مناسباً، ولكنها ذات يوم أعلنت ثورتها على الجميع وعلى كل من في البيت، على الكبيرِ قبل الصغير، أضربت عن الطعام، وحبست نفسها في غرفتها في بكاءٍ متواصلٍ وعصيانٍ متمردٍ على الأسرة، وتهديدٍ وصراخٍ وعويل، فضعُف حالُها وبات وجهُها شاحباً مصفراً، لم تأبه بمرآتها التي كانت تصارحها عودي لرشدك واهتمي بصحتك ولم تكن لتأبه لصوتِ أمها وهي تستعطفها: يا بنيتي كل شيء قسمة ونصيب ولم تكن لتلفت إلى نصح والدها وهو يقول للأم: أنا أدرى بمصلحتها!! صوتُها المخنوق وأنفاسُها المتهالكة وعبَراتُها المحمومة كانت هي الأقوى صوتاً، فلم تعد تسمعُ لأحدٍ مهما كان قريباً منها، حتى صلاتُها أهملتها فلم تعد تواظب عليها ظناً منها أن الله -عز وجل- قد تخلى عنها فلم يرحمها فتركها دون أن يستجيب دعاءها وهي التي كانت خاشعةً له ساجدةً في كل الفروضِ والنوافل. سؤالٌ واحدٌ فقط كان يلاحقُها ويلحُ عليها:- لماذا يرفضون زواجي من ابن عمي؟!! لماذا وهو الذي لا ينقصه دينٌ ولا خلقٌ ولا علم، فمنذ نعومةِ أظافرها وهي تسمعُ أنها لابن عمها وابن عمها لها! عندما كبرا شاء المولى أن يدب خلافٌ بين الأسرتين، ومع هذا الخلاف توقفَ الحلمُ الذهبي ومعه توقفَ مشروعُ الزواج، لم تكن تصدق ما تسمعه من أمها: بنيتي.. ليس لكِ نصيبٌ في ابن عمك والزواجُ قسمةٌ ونصيب!! ومرت الأيام تلو الأعوام، ولا بد من سفينةِ الحياة أن تُبحر، فلا شيء في الحياة يستحقُ أن تتوقفَ معهُ دورةُ الكون، ورضيت الابنة بما قسم الله لها فتزوجت، وبعد أعوامٍ طويلةٍ أدركت حكمةَ اللهِ عز وجل في هذا الحرمان الذي اعتصر قلبَها ذات يوم، وجعلها تتمنى الموتَ على أن تعيشَ بنصفِ إنسانٍ أو مجرد خيالٍ يعيش على هامش الحياة. بعد أعوامٍ وجدت نفسها وقد أصبحت زوجةً وأماً للعديد من الأبناء -ذكوراً وإناثاً- كبروا وتزوجوا وأنجبوا بنين وحفدةً، أما ابن عمها فقد تزوج ثلاث مرات بحثاً عن الذرية، ولكنه لم يُرزق بأي طفل!! يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو عُرضت الأقدارُ على الإنسانِ لاختار القدر الذي اختاره اللهُ له، وقيل:- لو اطلعتم الغيب لرضيتم الواقع. في علاقتنا مع الله ينقصنا شيءٌ واحد:- أن نثِق بأن كل ما يحدث لنا هو منجاة. مهما تلبدت السماءُ بالغيومِ الداكنة، ومهما ضاقت بنا الدنيا على اتساعها فلا نرى -في بعضِ الأحيان- أبعد من طرفِ أنفٍ يقف شامخاً على وجوهِنا!! نريدُ كل شيء ومن كل شيء وعلى كل شيء وكأننا فهِمنا الحياة وأدركنا سرها الخفي، أما الحقيقةُ المريرة فهي أننا مهما تعلمنا فنحن لا نُدرك من أسرارِها إلا قطرة من بحرها، ومهما أُوتينا من علمٍ وقوةٍ وسلطانٍ سنبقى عاجزين عن فهمِ حكمةِ اللهِ في تدبيرِ شؤونِ الكون. إن في الحرمانِ حكمةً وابتلاءً، كما في العطاءِ أيضاً حكمةٌ وابتلاء، بل إن في بعضِ الحرمان هو العطاء الحقيقي بل هو الأجمل في نتائجِه ومعطياتِه وفي أحلى صورِهِ يُقال: إذا ابتلعت الريحُ كوخَك فاعلم أن القدرَ يدعوك لتبني قصراً!! تقول إحداهن: فرشتُ سجادتي وسجدتُ طويلاً وبكيتُ بكاءً مريراً وبحرقةِ قلبٍ كاد أن ينفطر، ودعوتُ اللهَ عز وجل وألححتُ عليه بالسؤال: يا رب لماذا؟؟ أسأله عن سببِ حرمانٍ عشتُه! بعدها فتحتُ مصحفي لأُكمل الوردَ اليومي فوقعت عيناي على الآية الكريمة: (وما كانَ لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضَى اللهُ ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصِ اللهَ ورسولَه فقد ضل ضلالاً مبيناً). عندها سجدت لله معتذرةً مستغفرة أطلبُ منهُ العفوَ والمغفرة، واستسلمتُ لقدرِ الله، ومن تلك اللحظة لم أعد أقل: لماذا يا رب؟ بل أردد: حكمتك يا رب. خبيرة إدارية وتربوية