قلت مراراً إن الإرهاب طاعون العصر، وإنه يمثل الموجة الجديدة للشرور التي تلحق بالإنسانية في فترات مختلفة من مسيرتها. وعلى رغم أنه تكرار لموجات سابقة عرفها التاريخ إلا أن هذه الموجة تبدو أشد تأثيراً وأكثر إيلاماً بسبب تطور الأسلحة ومعدات القتل والتدمير، فضلاً عن التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال، وهو أمر جعل من الإرهاب ظاهرة كونية باهظة التكلفة على العالم في أي وقت، ولا شك في أن الحرب سوف تكون طويلة على الإرهاب بألوانه وأشكاله وأساليبه وجرائمه، كما أنها ستكون -بكل المقاييس- حرباً طويلة المدى عالية التكاليف باهظة الثمن، لأن العدو الذي نحاربه لا نراه وجهاً لوجه، فهو يوجه ضرباته في خسّة ويختار أهدافه بعناية في ضراوة وهمجية، والأمر يقتضي منّا أن نتأمل الملاحظات الآتية: أولاً: إن مشهد ذبح رهينتين من اليابان على يد تنظيم «داعش» سيبقى في ذاكرة الإنسانية تجسيداً لموجة جديدة من العداء يدفع الإسلام والمسلمون ثمنها، لأننا أمام حالة وحشية تتضاءل عندها المشاهد الدامية في تاريخ الإنسانية، ولا شك في أن الشعب الياباني لن ينسى ذلك للمسلمين، في الوقت الذي نتحدث عن التعاون المشترك بين الشعوب والسلام الذي يجب أن يسود ربوع العالم. لذلك، فإن الجرائم التي ترتكبها الجماعات الإرهابية لا تعطينا إلا الاستهجان والغضب الذي يصبه علينا الآخرون، وجرائم الإرهاب لا تفرق بين صحافي ياباني أو طيار أردني، فالإرهابيون يحاولون ابتزاز الدول وترويع الشعوب تحت لافتة كبيرة مكتوب عليها للأسف «الدولة الإسلامية». إن هذه الجرائم النكراء تصيبنا بالألم مرتين، مرة لأنها تحدث على أرضنا العربية الإسلامية وأخرى لأننا ندفع ثمنها دائماً تشويهاً لنا في عيون الآخر. ثانياً: إن العداء التاريخي لدى بعض العناصر المتعصبة تجاه الطرف الآخر في عالمنا المعاصر هو ميراث ينبغي أن نتجاوزه، فليس كل الشرق إرهاباً وتطرفاً كما أنه ليس كل الغرب سلاماً ودعة، وليس كل المسلمين «دواعش» وليس كل العرب داعمين لهذا التنظيم أو قابلين بوجوده، بل إن العكس هو الصحيح، فنحن أعرف الناس بطبيعة هذه التنظيمات ونشأتها واجتزائها النص الديني وتحويل صورته إلى الاتجاه المعاكس تماماً. لذلك فإن حجم الجرم الموجه إلينا يقتضي أن نكون أول المواجهين للإرهاب لأننا أول من يعانون منه، ويجب أن ندرك أن الحضارات شرقية أو غربية، مسيحية أو إسلامية، عربية وأوروبية، إنما تتواصل وتتزاوج عبر التاريخ، وليس صحيحاً أن هناك صراع ثقافات أو صدام حضارات، بل إن الإنسانية كلها تمضي في قارب واحد رغم كل الاختلافات والتباينات، لذلك فإن المشهد المؤلم الذي رأيته منذ أيام لحرق الطيار الأردني الذي أسره تنظيم «داعش» هو مشهدٌ لن يبرح خيالي ما دمت حياً لأنه يمثل قمة الوحشية والقسوة واللاآدمية ويتعارض مع كل الديانات والحضارات والثقافات ويزرع في النفس إحساساً مريراً بأن ما يحدث هو استهداف مباشر للإسلام ومحاولة خبيثة -ولكنها مكشوفة- لضربه من داخله وتقويض دعائمه من المسلمين أنفسهم قبل غيرهم، لذلك فإنني لا أتردد أن أقول إن المعركة طويلة وإن الحرب ضارية وإن المشاهد التالية سوف تعكس ما هو أكثر إيلاماً، لذلك يجب على العرب والمسلمين بل كل المدافعين عن حقوق الإنسان والساعين لاستقرار البشرية وسلامها، عليهم جميعاً أن يقفوا في مواجهة «طاعون العصر» لأنه لن ينجو من ضرباته أحد، فالإرهاب مرض معدٍ وهو «فيروس» يستقر في أجساد الأمم ويكمن في خلايا الشعوب. ثالثاً: يجب أن نعترف أن لـ «الإرهاب» جانب اقتصادي خطير. نعم، ليس كل «الإرهابيين» فقراء أو محتاجين ولكن الفقر المادي والقهر السياسي وغياب أسباب التقدم الذي يتيح الاندماج الطبيعي في المجتمعات الإنسانية هو المسؤول عن عزل عناصر عن هذه المجتمعات، لتخرج عليها وتستهدفها بضرباتٍ موجعة وخبطات عشوائية، فضلاً عن الخروج على كل الأعراف وانتهاك القيم كافة، كذلك فإنه لا يمكن التصدي لها بحربٍ نظامية أو ضرباتٍ جوية لأنهم يتبعون أسلوب حرب العصابات التي لا تواجهها إلا حروبٌ مماثلة، وأنا أدعو الحكومات المعنية إلى تكثيف جهودها لمواجهة «الجماعات الإرهابية» لأن الخطر الماحق الذي يهدد تلك الدول يكمن في تلك الجماعات قبل غيرها، كما أن عامل الوقت يعطيهم فرصة الاستفحال والمضي في طريق مدمر لكل من حولهم، وما يمكن أن نواجهه اليوم قد لا نستطيع قمعه غداً، لأن تلك الجماعات تستقطب الشباب المأزوم من أنحاء الدنيا وتدفع بالجميع نحو مسارات خطيرة قد لا يقدر عليها بعد ذلك أحد. رابعاً: ستظل مسؤولية «الإسلام السياسي» وسوء الفهم له والمضي وراء أوهام «الخلافة»، عناصر جاذبة لبسطاء المسلمين من دون أن يدرك أولئك الذين يمضون في ذلك الطريق أنهم إنما يفرقون الأمة ويسعون إلى تمزيقها وليس إلى وحدتها، كما أنه ليس صحيحاً أن «الخلافة» هي المظهر الوحيد لوحدة العالم الإسلامي، فهناك عشرات الممارسات التي يجب أن يمضي فيها المسلمون قبل الحديث عن المظاهر الفوقية مثل «الخلافة» وغيرها، فأولى بنا أن نرتفع بأمور دنيانا كما أمرنا ديننا الحنيف وأن نسعى إلى بناء الإخاء وزرع المودة بدلاً من مشاهد العنف والجرائم الدموية ضد الإنسانية، لذلك فإنني أدعو الهيئات الدينية وعلماء الإسلام إلى المشاركة بالفكر المستنير والرؤية الصحيحة للذود عن دينٍ نعتز به وعقيدة نراها تذبح أمامنا كل يوم! نعم إن البداية صعبة لأن الطريق طويل والجهد كبير ولكن لا بد من هذه البداية حتى نتعامل مع الدنيا بروح العصر ومفهوم المعاصرة ومنطق الحداثة الذي يجب أن يسود بديلاً لما نعاني منه، خصوصاً أن الأسوأ لم يأتِ بعد! خامساً: كانت القضية الفلسطينية، وما زالت وسوف تظل، هي «قميص عثمان» يرتديه كل من يريد أن يبدو أمام الرأي العام العربي والإسلامي شهيداً في سبيل الحق ومدافعاً ضد الظلم، وقد لا يكون الأمر كذلك على الإطلاق بل هي عملية استهلاك محلي أو إقليمي على حساب الحق والحقيقة، فمن يريد تحرير فلسطين وغيرها من الأراضي العربية عليه أن يؤمن جيداً أن الطريق الأوحد لذلك هو التقدم العلمي والتفوق الاقتصادي وبناء قدرات الدول العربية على أسس سليمة ترتكز على اقتصاد قوي وتسعى الى مجتمع يوفر الحد الأدنى لحياة الشعوب ورفاهية الأجيال القادمة بدلاً من السطو على الموارد الطبيعية والإطاحة بالموارد البشرية، حتى أصبح بعض الدول العربية نموذجاً للتخلف الفكري، حيث شاعت الخرافة وتراجع العلم وتدهور التعليم، كل ذلك ونحن محوطون بشعارات زاعقة وأصواتٍ عالية وتمنيات طيبة، حتى أصبحنا فقط أمة العواطف المشتعلة والمشاعر الملتهبة، ولا عجب، فتاريخنا هو تاريخ «ديوان الحماسة» في الشعر العربي! سادساً: إن الذاكرة التاريخية لعلاقة الإسلام بالغرب تحتفظ بمشاهد حزينة ومؤلمة، فيها حروبٌ ودماء، وفيها قهرٌ واستغلال، وفيها ثقة مفقودة وريبة متبادلة، لذلك فإن دوافع الإرهاب الذي يتغطى بالإسلام ويحاول أن يأخذ من تلك الأحداث ذريعة حتى ولو بتزوير الحقائق وتزييف التاريخ، إنما هي دوافع مفضوحة، ونحن مطالبون هنا وفي الغرب خصوصاً بتنقية الأجواء وتحسين الصورة المتبادلة حتى لا نظل أسرى تاريخٍ مؤلم ولنعد إلى الأصول في دياناتنا السماوية بل والأرضية أيضاً، لكي نكتشف أنه لا يصح إلا الصحيح، وأن الصراع هو سنّة الحياة، ولكن ذلك لا يعني أبدية المواقف واستمرار المرارة مهما كانت الأسباب والدوافع، فالتاريخ يبقى تاريخاً وسنّة الحياة هي التجدد مع فهم المواقف بطريقة صحيحة لا تختلط فيها الأحلام والأوهام والأساطير. سابعاً: إنني أظن مخلصاً، أن مواجهة «الإرهاب» الحالي في المنطقة العربية والعالم الإسلامي ستكون رحلة شاقة قد تحتاج إلى عشرات السنين، لأن الأمراض الفكرية تحتاج بطبيعتها إلى فترات أطول للعلاج وجهد أشق للخلاص منها. إننا نقف أمام مرحلة قادمة تحفل بالمفاجآت التي يجب أن نستعد لها وأن نعمل من أجلها، إذ إن مخطط ضرب الإسلام يمضي بلا هوادة، كما أن الاتجاه الى تقسيم المنطقة أصبح واضحاً للجميع وليس أمامنا إلا أن نواجه «الإرهاب» الداخلي والخارجي، لأن ذلك هو قدرنا وتلك هي المحنة الكبرى في تاريخنا الحديث. هذه قراءةٌ في يوميات حربٍ طويلة يبدو أنها سوف تكون الاختبار الحقيقي وربما الأخير أيضاً لإرادة العرب والمسلمين، في وقت تدنت صورتهم بفعل أولئك الذين يتحدثون باسم الإسلام والعرب وهم لا يعرفون الفارق بين ما جاءت به التعاليم السمحاء وبين جرائمهم الدموية التي تشير إلى أكثر مراحل التاريخ ضراوة ووحشية! حقاً إنها حرب طويلة عالية التكاليف! * كاتب مصري