هناك عادة سنوية يقوم بها رؤساء الولايات المتحدة، لا تتناسب مع الطريقة التي يتوهم العلمانيون العرب أنها تنظم السياسة بالدين. اسم هذه العادة «صلاة الفطور القومية»، وبدأت عام ١٩٥٣، أي تحديداً مع الحرب الباردة، عندما شرعت الولايات المتحدة بتوظيف الدين في حربها ضد الاتحاد السوفياتي. وفي كل عام يأتي الرئيس الأميركي لإلقاء خطاب ديني (شيء يشبه خطبة الجمعة لدينا) بهذه المناسبة. قبل أيام، ألقى أوباما خطبته الدينية، وكعادة الإعلام الأميركي، يتحول كل ما يقوله أو يفعله الرئيس إلى خلاف بين اليمين واليسار. وغالباً ما تكون هذه الخلافات سطحية، أي أنها تترك السياق السياسي العام وتركز على جوانب شكلية هنا وهناك. فأوباما تحدث في خطابه هذا عن أن هناك الكثير من المتدينين يشوهون دينهم ويفعلون باسمه أعمالاً شريرة، وضرب مثالاً بما تفعله «داعش» باسم الإسلام، وما فعله المسيحيون أثناء الحروب الصليبية، وكيف برر البيض الأميركيون نظام العبودية الذي كان سائداً عندهم بتبريرات دينية. أشعلت هذه المقارنات ناراً من الخلافات، فزعامات اليمين والجمهوريون من الطامحين للترشح للرئاسة في العام المقبل رأوا في هذه المقارنات «مهينة لكل شخص متدين»، وأنها تقلل من شأن خطر الإسلاميين المتطرفين، وأن التذكير بأعمال المسيحيين قبل قرون فيه استخفاف بما يلقاه هؤلاء المسيحيون اليوم من تقتيل وتشريد في الشرق الأوسط. أما اليسار، وفي أميركا لا يوجد يسار بالمعنى الحقيقي للكلمة، بقدر ما يوجد ليبراليين يوصفون بأنهم يسار، فقد دافع عن أوباما باعتبار أن اعتراض اليمين الحقيقي ليس على المقارنة، بقدر ما هو اعتراض على رفض أوباما؛ لربط العنف بالإسلام حصراً، واعتراض على مساواة المسيحية بالإسلام. هذا ما أقصده بالسطحية. فالنقاش فجأة أصبح حول: هل الإسلام مساوٍ للمسيحية أم أنه مغاير له؟، في حين أن النقاش الحقيقي يجب أن يتجه إلى جهة أخرى تماماً. إننا أمام شخص يدين قتل الأبرياء وعمل الشر، شخص يضع ثلاثة قواعد لأن يحمي الإنسان نفسه من القيام بأعمال شريرة باسم الدين، وهذه القواعد هي أن يكون متواضعاً، وألا يعتبر انتماءه إلى دين انتماءً إلى حكومة ما، وأن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه. هذا الشخص هو نفسه الذي قتل أكثر من ٢٤٠٠ شخص بواسطة الطائرات المسيّرة خلال الأعوام الخمسة الأولى لتوليه السلطة، بحسب هيئة الصحافة الاستقصائية غير الربحية في لندن. هؤلاء المقتولون تم استهدافهم في بلدان لم تعلن الولايات المتحدة الحرب ضدهم كاليمن وباكستان. والكثير منهم مسالمون ومدنيون، فعلى سبيل المثال، في منطقة البيضاء في اليمن قبل عام كان هناك موكب من السيارات متجه لحضور حفلة زفاف، وفي الطريق سقطت عليهم قذيفة من السماء. يقول أحد الناجين: «في بداية الأمر، لم أشاهد سوى ألواناً برتقالية وحمراء، لكن بعد فترة اكتشفت أن معظم من كان في الموكب تحولوا إلى جثث متفحمة جراء القذيفة». وفي تقرير نشرته كل من كلية القانون في جامعة ستانفورد وجامعة نيويورك، بعنوان: «العيش في ظل الطائرات بدون طيار» (توجد منه نسخة باللغة العربية على الإنترنت) يكشف فيه الآثار النفسية والاقتصادية والطبية لواقع الحياة اليومية تحت هذه الطائرات المسيرة في بلد لم تعلن اتجاهه حال الحرب، في أبسط انتهاكات لأعراف الحروب منذ أن مشى البشر على الأرض. ولكن،- قد يقال- ألم يكن ما قاله أوباما في هذه الخطبة مفيداً في مواجهة الحملة العنصرية المعادية للإسلام، والآخذة في الانتشار في أوروبا وأميركا؟ والجواب هو -طبعاً- لا؛ لأن أشد الإجراءات الحكومية الموجهة ضد المسلمين ما زال يُعمَل بها في الولايات المتحدة، فأجهزة «إف بي آي» ما زالت تزرع مخبريها وسط تجمعاتهم الأهلية، والمطارات لا تزال تختار المسلمين بشكل عشوائي لتفتيشات إضافية، وما زال التنصت ومراقبة المسلمين قائمين على قدم وساق، وما زال القانون يسمح لأوباما بأن يسجن من يشاء؛ باسم محاربة الإرهاب من دون التقيّد بالأنظمة الجنائية. فلماذا إذنْ قال ما قال؟ الجواب بسيط، فمنذ بدء حملة التحالف الدولي على «داعش» في سورية والعراق، فإن الإستراتيجية الإعلامية المتخذة هي التأكيد -دوماً- على أن «داعش» لا يمثّل الإسلام، وأنها «عدو للإسلام»- كما وصفها كيري مرة-، بمعنى آخر، أن تبني هذا الموقف من الإسلام مفيد في سعي الولايات المتحدة لحماية مصالحها في المنطقة، وفي سبيل حماية الإمبراطورية، كل شيء مباح. في كتابه «السياسة واللغة الإنكليزية»، يقول جورج أورويل: «إن اللغة السياسية مصممة بحيث تبدو الأكاذيب وكأنها حقائق، ويصبح القتل محترماً...»، يبقى أن نضيف، أنه أيضاً من واجبنا السياسي أن نكشف هذه الأكاذيب، وأن نظهر القتل الظالم بشكله الحقيقي. إن محض إبراز الحقائق في مثل هذه الأزمنة يصبح فعلاً سياسياً في حد ذاته. * كاتب سعودي. sultaan_1@