رجل، في زي برتقالي اللون شبيه بملابس معتقلي غوانتانامو، يتجوّل بين ركام، يُتخيل للحظة أنّها ركام مدرج روماني. ليس هناك من تعابير على وجه الرجل، الذي يظهر في الصورة الثانية محاطاً برجال ملثمين، يرتدون زياً رسمياً، يؤكدون من خلال اصطفافهم العسكري أنّ هذا الركام ملك دولة تابعة لتنظيم متفرع عن دين. في المشهد التالي، يقف الرجل في قفص من حديد، لا إشارة زمانية إلا لجرّافة مركونة إلى جانب السجن الحديدي. صورة نيران تمتدّ نحو الرجل ذي الثياب المبلّلة، مجمّدة إلى الأبد لتلتقط الثواني القليلة التي تسبق العذاب. رجل يحترق. انتهى المشهد الأخير لـ «شفاء الصدور». بهذه البساطة، ردّ تنظيم الدولة الإسلامية على فشل المفاوضات مع الحكومة الأردنية. أحرق رهينته، معاذ الكساسبة، ونشر صور إعدامه بالنار. لم يكن هذا فقط ردّاً على فشل المفاوضات. أو بكلام آخر: قتل الرهينة كان الردّ على فشل المفاوضات، أمّا «شفاء الصدور»، فجاء رداً استباقياً على ردّ الأردن، الذي مهما أتى «مزلزلاً»، لن يستطيع محو تلك الصور. فالأردن ما زال دولة ولعنف تلك الدولة شكل لا يستطيع محاربة صور «داعش»، وإنّ كان شيخ الازهر يطالب الدول بتجاوز حدودها، في موقف قد لا يعجب من لام الأزهر على سكوته عن «داعش» في الماضي. دفع التنظيم اللعبة مجدّداً إلى حدودها القصوى وربح. غير أنّ قدرة «داعش» على دفع الحدود خطوة أبعد ليست مرتبطةً بفعل القتل بحد ذاته. فالحرق ليس من اختراعات «داعش»، كما تشهد فيتنام وفتاته العارية أو العراق وجنوده المنسحبون أو سورية وبراميلها المحرقة. كما أنّ نتائج القصف والصواريخ لا تختلف عن عملية القتل اليدوية التي تتبعها «داعش». أمّا سجون أنظمة المنطقة، فلا تخلو من السادية التي تبنّتها «داعش» في أفلامها المصوّرة. ففي منطقة لا يمرّ أسبوع فيها من دون مجزرة أو مذبحة، استطاعت داعش بـ «إقتصادية عنفية» أن تتصدّر سلم الصدمات الأخلاقية. هذا ليس لتخفيف وحشية «داعش»، بل للإشارة إلى أنّ هناك أكثر من مجرّد ردّة فعل إنسانية في وجه عنف وحشي. فمنذ نشأتها العراقية، فهم «داعش» مركزية «أسلوب» القتل، الذي قد يفوق أهميةً عدد ضحايا القتل أو النتيجة المطلوبة من عملية القتل. فمن الذبح إلى الصلب والرجم وصولاً إلى الإعدام بالرمي من أماكن مرتفعة، تفنّن التنظيم في طرق إرهابه التي باتت أشبه باحتفالات طقسية موجهة إلى جسد المتّهم، شبيهة بطقوس الإعدام التي وصفها ميشال فوكو في عرضه لتقنيّات القتل في أوروبا قبل القرن الثامن عشر. وآخر ابتكار لتنظيم «داعش»، بعدما اعتاد العالم على صور الذبح والرجم، كان تكثيفاً لهذا المنطق، مع اختفاء جسد المتّهم في حالة طقسية قصوى. طقسية القتل باتت أهم من فعل القتل، هذه هي حساسيتنا الحديثة، وهذا ما فهمه البغدادي. ولهذا السبب بات العالم رهينة لمجموعة من المختلّين الذين يسيطرون على بقعة من الصحراء. لقد اعتاد العالم وحساسيته تجاه العنف وتمثيله، على الأقل منذ منتصف القرن الماضي، على الابتعاد عن فعل القتل أو حيويته، واستبداله بقـــتل بعيد المدى. فالقصف والقتل من خلال الطائرات، وحالياً عبر طائرات من دون طيار (أو من خلال البراميل) ينتج حرقاً ودفناً حياً وربما رمياً من الأعالي، غير أنّه يفعل ذلك من خلال توسيع الهوة بين الفعل ونتيـجته، والفاعل وضحيته، والمُشاهد وصــور القتل. وتوسيع الهوة لم ينتج فقط من إخفاء الصورة، بل أيضاً من خلال طمسها تحت ركام خطابات مختلفة، من الحرب على الإرهاب إلى مقولة «الضحايا الجانبيين» وصولاً إلى الدفاع عن الاستقرار والدولة. العنف لم يقلّ في العالم، بل أخذ أشكالاً مختلفة، وباتت له طقوسه التقنية إنّ لم يكن الطبّية. وللتـذكير فقط، فـــذروة هذا النموذج من «القـتل الإنساني» أو «النظيف» كانت المحرقة اليهودية، وأسلوبها الأشبه بعملية عقلنة لإدارة مصنع مما هو للمجازر البربرية. هذا كـــان نقـــد المابعد حداثيين لحدث المحرقة، ومدخلهم لاتهام مجتمعهم بأنّ هناك أدولف آيخمان صغيراً في كل واحد منّا. قد يكون هناك آيخمان صغير في كل واحد منّا، غير أنّه ليس هناك «داعش» صغير في كل واحد منّا، كما يحب أن يردّد البعض في لحظة تنويرية غالباً ما تنفجر حيال فعل شنيع يقوم به مسلم. وهذا ما لا يريده أصلاً الداعشي. فأسلوب قتل «داعش» استثنائي، يؤكد في كل مرة أنّه مختلف عنّا، وأنه ما زال قادراً على صدمنا وصدم أحاسيسنا الحديثة. نهاية «داعش» هي عندما تصبح طرق قتله معلبة وجزءاً من المقبول، أو عندما يصبح هناك «داعش» صغير في كل واحد منّا. «العنف من أجل العنف»، هذا شعار «داعش» في عالم بات فيه العنف أداة تقنية، وهو شعار لا يصلح إلا لأنّه إستثنائي. «العنف من أجل العنف» هو في هذا التصوير الدقيق للحظة القتل، أكانت ذبحاً أو رمياً أو حرقاً، والتلذذ بهذه اللحظات التي لا تظهر إلا خلسة على شاشات التلفزيون. هو في هذا التبني الواضح والصريح للقتل، في عالم بات العنف فيه يتيماً. وهو في عنف يفوق أي هدف أو مغزى أداتي، ليصبح هو الفعل المطلق، الذي لا يحتاج إلى تبرير أو تفسير، ليس له ماضٍ أو مستقبل. «العنف من أجل العنف» تحويل «جمالي» للسياسة في عالم نجح أن يخدّر قدرته على رؤية العنف. هذا كان سرّ الفاشية في الماضي، غير أنّه ليس سببها. ليس من حل لـ «داعش» إلا طائرات الائتلاف. غير أنّ هذا لن يعفينا من سؤال عن سبب صـــدماتنا الأخلاقية. يمكن البحث عن سر هذا العنف في سنن وأقوال وفتاوى، والبحث عن نفاق أخلاقي يتهرّب من المسؤولية لحظة تحمّلها. غير أنّه ليس من زمان لـ «داعش» إلا الحاضـــر. ففي تلوين لمتلازمة استوكهولم، بـــات العــــالم مدمناً على حالته كرهينة «داعش»، وهو إدمان سببه أن شرط الحفاظ على الأيخمان الصغير فينا هو وجود «داعش» كبير خارجنا.