عرض الروائي أيمن العتوم مدخلات المشهد الثقافي ومخرجاته بالأردن، وقال إنه يؤسس لجيل من الرواية يعتمد الحرف المقدس أساسا لتغيير الماء الراكد في أعماق النفس البشرية، معتبرا أن القرآن شخصيته المحورية في مشروعه الإستراتيجي. وذكر في حوار خاص للجزيرة نت أنه يكتب للإنسان والحب والحرية والحياة الخالدة والتاريخ واللحظة المستقبلية، ولفت إلى أن تسمية الربيع العربي مغلوطة، نافيا وجود رواية إسلامية. كيف تشخص الحالة الثقافية في الأردن؟ وإلى أين تتجه بوصلة الرواية الأردنية؟ الحالة الثّقافيّة في الأردن متشابهة إلى حدّ كبير مع نظيراتها في البلدان العربية الأخرى، كأنّ الناس تواصَوا على أن يرموا بالكتاب خلف ظهورهم. ربّما الحاجة إلى الحياة واللّهث وراء لقمة العيش هي التي صرفتهم عن الكتاب أو صرفَ الكتاب عنهم، غير أن هذه الحالة بدأت بالتقلّص لصالح الانحِياز إلى الأكثر سحرًا وجلالاً وإدهاشًا أعني الكتاب. ستظل الرواية الأردنية تراوح مكانها إنْ لم تجِد مثقّفين نوعيّين يخرجون من الذوات الضّيّقة إلى الإنسانيّة الأشمل، وأنا مُتفائل بأنّها تشقّ طريقها وستظل تفعل حتى تحجز لها مكانًا مرموقا وإن احتاج ذلك إلى جهدٍ وزمنٍ. يقولون إن الأدب لا يطعم خبزا، وهذه شكوى تكاد تكون عامة تقريبا فماذا عن تجربتك الشخصية؟ ليس مفروضًا بالدرجة الأولى أن يُطعمنا الأدب خبزا ويكفي أنّنا به تتكامل إنسانيتنا ومن خلاله ترقى مشاعرنا وتصفو ذواتنا وتُضيء شموعه الدّروب للسارين الذين أنهكهم اللّهث خلف السراب. الأدب لم يطعمني لكنّني لم أشكُ ولم أضجر ولم أقف على الأطلال نادبًا، وكنت أريد أن أصنع حالةً ثقافيّة مشهديّة غير مسبوقة في الأردن كلها، فبِعتُ كتبي بأقل مِن سعر التكلفة ودفعت الفَرْق من جيبي. وحين منعتْ "سلطات الحرّيّة" في بلدي روايتي (حديث الجنود) بادرت بتوفيرها مجانًا وتهافتَ عددٌ غير قليل من القرّاء عليها. كنت أريد أن تصل الكلمة إلى يد القارئ وتُثمر في قلبه ولا يهمّ ما ألقاه من تعبٍ، وكل هذا صنع هذه الحالة غير المسبوقة في الأردن وإذا كان لي من شيءٍ أفتخر به فهو أنّني ساهمت بشكل أو بآخر في إحياء فضيلة القراءة بين النّاس، وصنعت مشهديّة قرائيّة رفعت من نسبة القرّاء في بلدي. في روايتك "حديث الجنود" يتهمك البعض بعدم الحيادية وإقصاء البعض لحساب آخرين وبالذات شخصية جاسر الشوبكي الشاهد الحقيقي؟ في يوم الاعتصام الّذي حدث فيه الاقتحام فجر 15/5/1986 وصل عدد الطلاّب وقت الذروة إلى 8 آلاف وكلّهم شهود حقيقّيون للحدث فهل كان علي أن ألتقيهم جميعًا؟ لقد وصلت إلى حوالي خمسين بطلاً من هؤلاء وسجّلت شهاداتهم ومع أنّني لم ألتقِ الدّكتور جاسر الشّوبكيّ إلاّ أنني رمّزتُه بوضوح في الرواية من خلال شهادات الآخرين عنه، وقلتُ إنه كان يلبس "الجينز" ويحمل لافتتهالخاصة به ويدخل في وسط الطلاّب ويُشاركهم ثورتهم، فكيف أكون قد أقصيته؟ على صعيد الأفكار كنت أمشي على حبلٍ رفيع وخيط دقيق في الرواية حتّى لا أهضم حقّ أحد، وقدمت الأفكار جميعها على أنّها صنعت الحدث التّاريخيّ المهمّ في مسيرة الأردن ولم تنفرد به حركةٌ أو جماعة دون أخرى، والنص بين أيدي الجميع، وأتحدّى إنْ كان فيه ميلٌ لطرفٍ على آخر. رغم أنك قضيت ثمانية أشهر فقط في السجن لكنك تفوقت على نظرائك في وصف اللحظة وراء القضبان؟ أنا لم أقضِ في سجن تدمر لحظةً واحدةً لكن روايتي (يسمعون حسيسها) التي تتحدّث عن هذا السّجن وتبسط عبر صفحاتها أدقّ تفاصيله وتفاصيل العذاب فيه هي الرواية الأكثر انتشارًا لي. المسألة لا تتعلّق بالزّمن الذي يقضيه الكاتب في السّجن، فالزمن ليس وحده العامل في بلورة عوالم السجن وتجلياته، والمسألة تتعلق بالدرجة الأولى بالارتِداد إلى النفس البشرية وسَبْر أغوارها، والتّماهي معها من أجل تقديمها في تناقضاتها المتشابكة المعقّدة إلى القارئ. أنا استطعت أن أفعل ذلك حين أصغيت في السجن إلى الجميع، وفتحت قلبي لكلّ التوجّهات وأنرتُ بصيرتي بالجلوس إلى من اتّفق معي أو اختلف. في أعمالك الأدبية هناك ميل واضح للغة القرآن وقصة يوسف تحديدا كتعبير عن الإسقاط السياسي والاجتماعي، هل تؤسس لرواية إسلامية؟ ليس هناك -في اعتقادي- رواية إسلامية، هذا إجحاف بحق الأدب وحَشْر له في زاوية مركزة، هناك رواية إنسانية تستطيع أن تستنهض كل خليّة في روح القارئ وعقله من أجل أن ترقى به إلى عوالم شعوريّة لم يكن ليرتادها لولا هذه الكلمات. أنا أؤسّس لجيلٍ من الرواية يعتمد الحرف المُقدّس أساسًا لتغيير الماء الراكد في أعماق النفس الإنسانيّة. أمّا ميلي إلى لغة القرآن فقد قصدتُ إليه قصدا، إنني أندهش من أولئك الروائيّين العرب الذين يُصدّرون رواياتهم باقتباسات من الإنجيل أو التوراة أو شكسبير أو كيتس أو ديستويفسكي أو بوشكين أو غيرهم ويعُدّون ذلك سعةً في الثقافة والاطّلاع ويُنكرون على الذين يفعلون ذلك مع القرآن. لكل روائي شخصية محورية تلازمه وتميزه عن غيره، فلمن تكتب؟ وما عماد مشروعك وشخصيته الرئيسية؟ أكتب للإنسان وللحب وللحياة الخالدة وللحرية وللتاريخ وللحظة المستقبليّة التي ساعدنا فيها إنباء الرسول صلى الله عليه وسلم على تخيّل شكلها فكان لنا منه ومن الكتاب العظيم مرجعيّة غنية لو أحسنَ الكتاب النّهل من معينها، والاتّكاء على قَصصها لجاؤوا بالعجب العجاب. يُمكنك أن تقول إنّ شخصيّتي المحوريّة في مشروعي الإستراتيجي هي القرآن، ولو وجدت غيره أكثر منه جلالاً وغَناءً وعمقًا للجأت إليه ومحورت حوله عملي. تميل في أغلب نتاجك الأدبي للأسلوب الرومانسي وأقرب ما يكون للمصري المنفلوطي، فهل أنت مُتأثر به أم تمتلك أسلوبا خاصا لاجتذاب القارئ؟ لم أقرأ ربّما في حياتي للمنفلوطي غير بعض الشّذرات فكيف أكون متأثرًا بأسلوبه، أكتب بروح زماني لا بروح زمان سواي، أكتب بصدق الشعور الذي يهيج في الأعماق ولا يقتمش من غيره لكي يلبسَ لبوسه ويتزيّا بِزيّه، لي أسلوبي الخاصّ ومنهجي المتفرّد في التعبير. لقد قدّمتُ للقارئ لغة وسردية لا يكاد يخطئها القلب حين تنداح في حُجراته، وهذا ما جعل الناس يقبِلون على ما أكتب، ولو كنت أقلد غيري لكنت نسخةً مكرّرة عنهم، ولألقى النّاس كلّ هذا وراء ظهورهم.