التقاليد الوظيفية لدينا، أو سمها الأعراف، أو سمها التعليمات غير المعلنة، تحمل رسالة لكل موظف بأنه محظور عليه الكتابة عن الجهة التي يعمل فيها. لم أكن أعرف هذه المعلومة عندما التحقت بوزارة الصحة منذ عشرين عاما تقريبا، كنت قد أتيت من بيئة مستشفى ضخم يعمل بمعايير الطب الحديثة في كل شيء ، إدارة وخدمة طبية، ينتقد العاملون فيه كل شيء بحرية ودون خوف من المساءلة. ولجهلي بأسرار الوظيفة الحكومية، وبعد أن عملت في أحد مستشفيات وزارة الصحة وصدمت بكثير مما رأيته، وكنت حينها قد بدأت الكتابة الصحفية، كتبت مقالا ناريا أنتقد فيه وزارة الصحة ونظامها وأداءها، وكل شيء يتعلق بها تقريبا. بعد نشره فوجئت بكثير من الزملاء يكيلون لي اللوم والتقريـع لجهلي بمغبة ما كتبت، وينصحونني أن أبحث لي عن مكان آخر غير الوزارة. وهنا أسجل للتأريخ أنه بعد أسبوع من كتابة المقال وصلتني رسالة مطولة من وزير الصحة آنذاك الدكتور أسامة شبكشي، يكاد يتفق معي فيها على كل ما كتبته، لكنه شرح لي أحلامه في أن تكون الوزارة في يوم ما بالشكل الذي كنت أحلم وأطالب به. لم يعاقبني أو حتى يلومني الدكتور أسامة على ما كتبته. وقبل سنوات قريبة كتبت الأستاذة فاطمة الفقيه، عندما كانت تعمل في أحد مرافق وزارة الصحة، كتابا جميلا بعنوان «مذكرات موظفة سعودية» نبشت فيه بصدق وحرقة وتجرد جوانب معتمة في أداء الوزارة، حينها لم يتم فسح الكتاب لدخول المملكة، لكنه فسح بعد حين بعد تدخل الدكتور عبدالعزيز خوجة، وبعدما أصبح الكتاب قضية. نحن نتحدث الآن عن ذكريات ومذكرات موظفين عاديين كانت محاطة بالتوجس والحذر، فكيف عندما يأتي وزير ويميط اللثام ويسحب الستارة ويزيح الغطاء عن حقبة وزارته بكل ملابساتها بشفافية متناهية. في تأريخنا الإداري لا نعرف إلا أقل من القليل من المسؤولين الذين تحدثوا عن فترة تقلدهم المسؤولية، وبالطبع يستمر الكبير غازي القصيبي الاستثناء الذي لا يتكرر، لكننا فوجئنا بوزير آخر هو الدكتور «حمد المانع» عندما أصدر كتابه «سيرة وزارية» وتحدث فيه عن أدق التفاصيل وجعلنا نحيط علما بما لم يكن لنا أن نعرفه لولا أنه تحدث. عندما كان وزيرا كنت أحد منسوبي الوزارة، لكني أؤكد أنه لم تكن بيننا أي علاقة خاصة بأي شكل من الأشكال. ولم أشاهده من يومها، يوم الاجتماع الذي جاء من أجله، لكني كنت أتابع أفكاره التطويرية كشخص بعيد عن مصدر القرار، وأتمنى أن تتحقق. وذهب حمد المانع لكنه عاد. عاد هذه المرة بشكل مفاجىء جدا ككاتب صحفي. لم يدخل في حالة كآبة بعد انزياح منصب الوزير عنه، ولا أصيب بعقدة الكرسي المخملي وانتكس بعدها، ولا توقفت دورة الحياة لديه عند باب الوزارة. عاد يكتب بشكل أنيق ومتمكن وجرىء أيضا. ألا ترى يا وزيري وزميلي في الكتابة أن الحياة أرحب عندما لا تكون وزيـرا؟. أهلا بك على رصيف التعب الذي يشفع للاستمرار فيه أنه رصيف الصدق..