«مرحلة كراسي» الفنان السعودي «نايل المُلا» أراها علامة فنية كبيرة في مسيرته الفنية، فهي تجذبني للغاية، كعلامة زمان ومكان ودلالة المرئي عن اللامرئي. وكراسي اللوحات الشاغرة تعجبني أكثر من الكراسي الممتلئة بساكنيها. فكرسا فان جوخ الشهيران الفارغان في انتظار يتركا لدى المشاهد إحساساً موجعاً بالوحدة. وتعجبني مفاهيمية كراسي جوزيف كوست، وحيرة المشاهد بين الدلالة البصرية واللفظية كذلك غربة وغواية كراسي «نايل مُلا» الدرامية. أما أكثر الكراسي تأثيراً نفسياً في فهي كراسي يوجين يونسكو في مسرحيته «الكراسي» بما تحدثه من فراغ إنساني موجع. وعلى رغم أن كراسي «المُلا» بلا جالسين وقد غادروها، غير أني أرى جالسيها بأنفاسهم الملتصقة، بأطر كراسيه، وألوانها الساخنة، وبمجال طاقة أجسادهم اللامرئية، وهي كل ما يتبقى بعد انصراف الجالس عن كرسيه. هذه الطاقة وهذا الحضور لكراسي لوحاته، أجده مثيراً للتأمل، واستدعاء حال تقود إلى تداعيات وعي، ورؤى فلسفية حول جالس لم نره، وكرسي حامل لبقايا وجود، بما يثير فكرة الغياب. كما أنها دائماً كراسي الأماكن الضيقة، تعيش فيها حال عزلة ووحدة، على رغم ذلك الحشد الظاهري لكراسيه المتراكمة، التي تحاول كل منها احتواء، أو مُكاتفة الأخرى، وهي نفسها ضائعة ليصبح حشد كراسيه يزيدها مأسوية، وليس احتواء. وأرى في بعض لوحاته كراسي، وكأنها ملقاة في غرف صيغت، هي وكراسيها، من تجعيدات كجلد توقف عنه الفعل، ثم فجأة استيقظت لتستعيد ما لن يُسترد من زمن مر على مكان لم يُدركه. و«مُلا» له تأثيرات لونية ساعدت في هذا الإحساس كأنه باللون وضربات فرشاته المتذبذبة بهوائها يُجعد تضاريس الفضائي المحيط بكراسيه. لذا أرى الفكرة الأساسية في كراسي «المُلا» قد تدور حول الخواء أو الغياب. وأعتقد أن اللحظة الأخيرة قبل رفع الفنان فرشاته عن كراسيه يكون بلغ التعبير عن معنى اللاحضور. وتبدو لي كراسي «المُلا» ككراسي «يونسكو» وُجدت ليبدو كل شيء وُجد بلا معنى. هذا الإحساس الذي يتعدى المنطق، هو ما يسعى إليه، أو يجد أدواته الفنية تجيد مجادلته، بل ومناطحة ذهنياً، وبصرياً، محققة منولوجاً بصرياً، متدفقاً بأسرع ما يمكن، بحيث لا يكون للكراسي نفسها في ذاتها، أي قدرة على التحكم ويكون المونولوج، عبارة عن الفكرة، تتابع وتتدفق الواحدة، تلو الأخرى ومن لوحة لأخرى، ممزوجة بتلقائية الفنان، وتدفق الذهن بين المأسوي، والساخر، كوسيلة للنقد الاجتماعي، والفلسفي معاً في حال من التوتر الدرامي. كما أن كراسي «المُلا» مُحملة برؤى فلسفية، بعيدة بين ازدواجية الحضور والغياب. وازدواجية المرئي واللامرئي. وازدواجية الزمان والمكان، ليكشف عن كفاح الإنسان بين الحضور والغياب وعن عذابات عدم الحضور، بينما الملمس الإنساني، حاضر وبقوة فوق السطح. لتحدث حال توتر بين التمثل والتجرد وأسطح المعاناة المتعددة الطبقات. لذلك لا أرى كراسي «نايل ملا» كراسي تستدعي الراحة والمُهادنة، لا الوظيفية ولا البصرية، فهي أقرب لحفرية، تحمل جينات مراوغة تشبه المراوغة الخفية بين الجذب واللفظ في اللحظة ذاتها. وهناك اعتبارات مهمة، في لوحات الفنان من حيث التكنيك البنائي، ومكونات الفضائي، والامتداد اللامرئي، إلى خارج اللوحة. لتبدو لنا الكراسي كذوات منفصلة، كأن كل منها لها عالمها الخاص، ولها شحوبها، وطقوسيتها الخاصة. كذلك يشدنا إيقاعها الحركي، واللوني، وبتأويلها الفلسفي، واللامرئي، والجمالي وحركة الخطوط، وإيقاعها، والتركيب الهندسي، في فضاء متموج كأنه فضائي مسرحي، نتج تأويله من غياب الإنسان، بعد مروره تاركاً خلفه فوضى الوجود. ولتعقيد مداخلنا إلى كراسي «الملا» التي لم تعُد لهدف جمالي فقط، على رغم قيمتها وشدة تأثيرها، كقيمة فنية قوية، لفنان متمكن من أدواته، أحب أن أحدث تناظراً بين كراسي مسرحية «يونسكو» وكراسي لوحات «المُلا». في مسرحية «يونسكو» حين يدرك العجوزان - بطلا العرض المسرحي - بمجرد أن يدق الجرس قرب نهايتهما، لأنهما يعرفان أنهما سيموتان، بانقضاء الحفلة، أمام حقيقة ولا يستطيعان التراجع، ما جعل الزوجين يختفيان تحت الكراسي، المتزايدة خوفاً من أن يموتا غرقاً، ولا يبقى منهما إلا صوتهما. وتبزغ من وقت لآخر ذراع أحدهما ليتشبث بأي شيء من دون أن يكون هناك شيء. ثم يتبع ذلك دخول ضيوف غير مرئيين، فنكاد نسمع كما في لوحات «الملا» همهمات، وكلمات، وعبارات، غير متبادلة، ثم يدب التمزق، والتكسر، ليصل الحوار في النهاية إلى نوع من الكلام المتخبط، المتطاير على رؤوس الحاضرين غير المرئيين – كما في اللوحات – الذين يشغلون الكراسي الخاوية التي تزحم مكان المسرح، ومكان اللوحة. فمثلما هي تفكيك للنفس في المسرحية هي في لوحة «الملا» تفكيك لمعنى الكرسي الظاهري، ليصلنا نحن المشاهدين، أن اللاواقع قد يكون أشد واقعية من الواقع. وداخل اللوحة حرر الفنان لوحته من الوقوع في فخاخ التقليدية، وجعل من كرسيه جسداً، تسكنه استطيقا الفكرة، وأيضاً عنف تحولات الجسد المادي لكرسي وحيد معزول. لتدور حول لوحات «المُلا» تساؤلات بين قدرة المرئي، وكثافة اللامرئي ومسافة السكينة بين الرؤية البصرية والنفسية. كما أن كراسيه تستفزنا لتساؤلات عدة حول فكرة الانتظار، الفقد، العزلة، الخواء، الغياب، وأرى أن «المُلا» استخدم الكراسي كقطب، تتمحور حوله جميع الأفكار. إن قوة البصرية الذهنية في لوحات «نايل مُلا» كقوة رؤية «يونسكو» هي بتلك الكراسي الخالية من جالسيها، لتوحي بأن كل شيء خُلق بلا معنى. وكراسي لوحات نايل هي كالبشر، شكل من أشكال الغياب. لذا هي محاولة الملا الفنية للإجابة عن أسئلة ميتافيزيقية، تؤرق روح الإنسان، دائم البحث في أي زمان ومكان، عن معنى الوجود. أو كأن كراسيه كائن آخر حيَ، أو كأنه الواحد في الآخر. في عزلة عن الآخر، أي أنها شكل من أشكال الفراغ. فكراسيه ليست ملقاة في الفضاء، بل هي خالية تمتلئ بالفضاء، ليحدث إحلال مترقب بالجسد المادي، الفيزيقي، بدلاً من الفضائي. وفي لوحاته هذه نجد الأوضاع غير المألوفة تفتح آفاقاً واسعة للصور البصرية والذهنية الجديدة، من دون الاعتداد كلياً بأوضاع الواقع المألوف. كما نرى الأوضاع الهيكلية للكراسي بين الدرامية والتهكمية، ليست لعبة بل موقف فلسفي. كما أن هناك روابط أخرى غير الواقع يمكن لروح المشاهد أن تتبينها، إذا لاحظنا الهالة التي تحيط بالأشياء المألوفة في حياة كل يوم مثل «الكراسي». * ناقدة تشكيلية مصرية.