هناك أهمية كبرى لتنظيم حوار مجتمعي في مصر في هذه المرحلة التي يستكمل فيها الرئيس عبدالفتاح السيسي عامين من حكمه، حفلا بإنجاز مشاريع كبرى، وتحقيق معدلات مُرضية من التنمية والاستقرار. ومع ذلك هناك مشكلات وشكاوى من النخب السياسية والاقتصادية وقطاعات واسعة من الشباب ورجال الشارع. ربما لأن تطلعات وطموحات كل فريق لم تتحقق في شكل كامل، وربما لأن قنوات التواصل بين مكونات المجتمع والحكم لا تعمل بالسرعة والكفاءة المطلوبتين، كما أن الأحزاب ضعيفة والبرلمان لم يمارس فعلياً المهام والأدوار الكثيرة المطلوبة منه. مهما كانت أسباب الشكوى والقلق لدى بعض القطاعات، فإن الحوار والتواصل الفعال هما الحل الأمثل لاحتواء القلق والمخاوف من تغييب السياسة والرهان على الحل الأمني. فالحوار الجاد والمثمر بين الحكم ومكونات المجتمع هو سياسة بامتياز، لا سيما أن مصر تفتقر تاريخياً لتقاليد مثل هذا الحوار. فحوارات الحكم والمعارضة في عصري الرئيسين السابقين حسني مبارك ومحمد مرسي كانت تتحول إلى إجراءات شكلية يقصد منها احتواء المعارضة وكسب الوقت وتحسين صورة الحكم في الداخل والخارج. لذلك، فإن الحوار المجتمعي الذي أدعو إليه لا بد أن يتجاوز ما سبقه ويُحدث تحولاً تاريخياً مغايراً عن الحوارات السابقة، والتي نظمت في عهدي مبارك ومرسي. ويتطلب هذا التحول الالتزام بالجدية والتوصل إلى مخرجات محددة، تكون مثار توافق بين أطراف الحوار، وليس إذعاناً تفرضه موازين القوى بين الأطراف المشاركة فيه. الحوار المجتمعي بهذه الكيفية مطلوب في لحظات التحول الكبرى والتي تمر بها مصر حالياً، لذلك ينبغي أن يكون حواراً استراتيجياً لا يتعلق بحل مشكلات موقتة أو بناء تحالفات قصيرة، وانما يركز على بناء توافقات وشراكات استراتيجية. من هنا تأتي ضرورة تحديد أطراف الحوار وجدول الأعمال والإطار الزمني، لأنه لا معنى لحوار بلا «أجندة»، أو جدول أعمال متفق عليه، وآليات لتنفيذ الحوار، ومتابعة مخرجاته. وهنا ليسمح لي القارئ بمناقشة بعض هذه الجوانب. أولاً: هناك رغبة شعبية ورسمية في تنظيم هذا الحوار حيث أجرى الرئيس السيسي الكثير من الحوارات، وأبدى رغبته في الحوار مع الشباب، كما أجرى حواراً مهماً مع المثقفين. من جهة أخرى، عكس كثير من التصريحات الرسمية ومقالات الرأي في صحف مختلفة، رغبة عامة في تنظيم حوار مجتمعي لبلورة رؤية استراتيجية تحدد أولويات التحرك في مجالات الاقتصاد والسياسة والأمن والسياسة الخارجية وتحاول التوفيق بينها. وأتصور أن هذا الحوار لن يبدأ من الصفر، لأن دستور 2014، ورؤية مصر 2030 تصلحان كأساس موضوعي لجدول أعمال يمكن الانطلاق منه وتطويره. وفي هذا الصدد، فإن الحوار المجتمعي يمكن أن يتبنى رؤية مصر حتى 2030، ما يضمن استمرارها والتزام الحكومات المتعاقبة بها، وعدم التخلي عنها أو الانقلاب عليها. ثانياً: ضمان تمثيل مكونات المجتمع كافة، باستثناء الأطراف التي مارست العنف والإرهاب أو تدعو إليه. ولا شك في أن انتخاب البرلمان ووجود نقابات مهنية منتخبة واتحادات طالبية، سيساعدان في اختيار ممثلي الشعب. وأتصور أن الحوار يجب أن يبدأ على مستوى كل محافظة وصولاً إلى اختيار ممثلين عن كل منها، علاوة على ممثلين على المستوى الوطني، ليشارك الجميع في مؤتمر عام يناقش ويقر الرؤية الاستراتيجية لمصر في المجالات كافة، ما يشكل تجديداً ودعماً للمشاركة السياسية الواسعة في المجتمع، في هذا الإطار قد يكون من المفيد أن يناقش الحوار المجتمعي كيفية التعامل مع جماعة «الإخوان المسلمين»، وهل لها دور في النظام السياسي، وكذلك السلفيين وجماعات الإسلام السياسي وشروط هذا الدور وضوابطه. ثالثاً: لا يعني الحوار المجتمعي التشكيك في قدرات أو توجهات الحكم، وإنما هو على العكس يمثل نوعاً من دعم شرعية الحكم. فالمؤكد أن غالبية المصريين تؤيد الحكم الحالي وترى أنه لا بديل منه للخروج من أزمة الاقتصاد والقضاء على الإرهاب وتحقيق الاستقرار والتنمية. في هذا السياق، بلغت شعبية الرئيس السيسي في استطلاع أخير 79 في المئة، وهي نسبة مرتفعة للغاية، لكنها تقل عن نسبة الـ90 في المئة التي حصل عليها قبل عام، ما يعني أن هناك تراجعاً في الشعبية، لكنه بسيط، يرتبط باختلاف التقديرات والتوقعات، علاوة على أخطاء في التواصل والحوار بين مكونات التحالف العريض من القوى المدنية التي أطاحت حكم «الإخوان» من خلال موجة ثورية هائلة في 30 حزيران (يونيو) 2013. من هنا، فإن الحوار المجتمعي المقترح قد يكون مناسبة جيدة لاستعادة أو تجديد شراكة «تحالف 30 يونيو»، ما يشكل دعماً جديداً للحكم، بخاصة عندما تطرح القضايا المسكوت عنها كافة للنقاش العام، وينتهي الحوار المجتمعي إلى توافقات واضحة في شأن استراتيجية وخطط العمل في السنوات المقبلة. رابعاً: لا يهدف الحوار المجتمعي إلى تحقيق إجماع أو حشد شعبوي خلف الحكم، لأن من الطبيعي ومن المفيد أيضاً وجود معارضة، وبالتالي فإن إشراكها حالياً في الحوار المجتمعي سيقلص من الانقسام في معسكر القوى المدنية (معسكر 30 يونيو) والذي وصل إلى مرحلة تبادل الاتهامات بالتخوين والتآمر على مصر، وهو مناخ لا يتفق والحد الأدنى من متطلبات التحول الديموقراطي. وهناك احتمال قائم برفض بعض المشاركين في الحوار المجتمعي نتائجه، ما يرشحها للقيام بدور المعارضة. لكن التوافقات بين الكتل الرئيسية على نتائج الحوار المجتمعي ستحدد حجم المعارضة ونوعية خطاباتها ومدى تأثيرها في المجتمع. خامساً: إن توسيع قاعدة الحوار المجتمعي وعدم استبعاد المعارضين لبعض السياسات القائمة – باستثناء الإرهابيين - سيؤكدان انفتاح الحكم وتسامحه، ورغبته في تحقيق توافق وطني عام. وقناعتي أن هذا الحوار قد يطور من أداء الحكم والذي يبدو في حاجة إلى الحوار مع خبراء وشخصيات خارج الدوائر الحالية لصنع القرار وتنفيذه. وأتصور أن القبول بتنظيم حوار مجتمعي يتطلب توسيع المجال العام، والتسامح مع بعض التجاوزات والأخطاء التي يتورط فيها بعض الشباب. ولا شك في أن هذه الإجراءات ستنعش السياسة في مصر وتوسع دائرة المشاركة الشعبية، كما ستحسن كثيراً من صورة مصر في الخارج والتي تتعرض لتشويه مستمر، يؤثر بالسلب في استعادة السياحة وجذب الاستثمارات الأجنبية. القصد أن تنظيم حوار مجتمعي ونجاحه - بغض النظر عن نتائجه - سيقدمان رسالة قوية للعالم بأن مصر مستقرة، وتسير في الطريق الصحيح نحو التحول الديموقراطي. * كاتب مصري