من الآن. من البداية. وعلى نحو شبه مؤكد: مانويل لوبزكي هو الذي سيقطف أوسكار أفضل تصوير. لن تكون المرة الأولى، بل فاز بالجائزة ذاتها في العام الماضي عن فيلم «جاذبية». لا يهم. ربما بنهاية هذا التحليل يكون لنا موقف آخر لكن الآن على الأقل، وبعد استعراض المصورين السينمائيين المرشحين لهذه الجائزة، فإن لوبزكي يبدو الأكثر ترجيحا. من شاهد فيلم «بيردمان» يعرف السبب. الفيلم مأخوذ كما لو كان لقطة واحدة من مطلعه. في الواقع هو لقطات عدة لكنها لقطات طويلة. اللعبة هي أن يبدو الفيلم كما لو كان كابوسا في منام بطله. وفي الكوابيس (كما في الأحلام الجميلة) قلما تتوقف كاميرا البال عن الدوران. تشاهد فيلما داخل بالك لم تتوقع أن تحضره. تتابعه مصنوعا من لقطة واحدة متصلة ولو كان قائما على عدة مواقع. وكل ما يمر به بطل «بيردمان» هو أقرب منه إلى كابوس. فقط في الأحلام تجد نفسك محشورا في ممرات ضيقة. فقط في الأحلام تجد نفسك طرفا في ملاكمة مع رجل يرتدي ملابسه الداخلية فقط. فقط في الأحلام يقفل عليك الباب وأنت في «الروب دي شامبر» ولا تستطيع أن تفتحه لتخلص طرف المعطف منه، فتتركه عالقا وتركض في الشوارع عاريا وسط المارة لتحاول الوصول إلى الباب الآخر. فقط في الأحلام البواب لا يعرفك ويعتبرك مجنونا. * تصوير «بيردمان» * حين قرأ مانويل لوبزكي الذي صور لترنس مالك «العالم الجديد» و«شجرة الحياة» ولألفونسو كوارون «أطفال الرجال» و«جاذبية» ولتيم بيرتون «سليبي هولو» ونحو 40 فيلما آخر، لم يكن راغبا في تصوير الفيلم. يقول: «قرأته كصديق لأليخاندرو (غونزاليس إيناريتو، المخرج) بعدما سمعته يتحدث عنه. قال لي إن الفيلم سيكون من لقطة واحدة من مطلعه إلى نهايته فقلت في بالي: أرجو ألا يطلب مني تصوير الفيلم». لكن أليخاندرو فعل. أعطى السيناريو لإيمانويل وطلب ردا. فقط عندما قرأ مدير التصوير السيناريو استطاع أن يفهم لماذا يريد المخرج منه تصوير الفيلم على هذا النحو. استطاع، على الأرجح، قراءة الفانتازيا التي في البال والتي يعيشها بطل الفيلم «مايكل كيتون» ويريد المخرج التعبير عنها بلغة الصورة أساسا. الخطوة الأولى كانت الأهم: بناء ما يشبه المكان المفترض بالأحداث أن تدور فيه. أحداث «بيردمان» تقع في مبنى لمسرح وباستثناء مشاهد قليلة فإن معظمه داخل ذلك البناء وبعضه على المنصة ذاتها. تم البناء حسب تصميم شارك مدير التصوير فيه. مجرد ديكورات يمكن لها أن تتغير لكنها تتفق مع مشاهد السيناريو المكتوب بدقة. الخطوة الثانية هو بدء التصوير (من دون ممثلين) بكاميرا صغيرة. كلاهما، المخرج ومدير تصويره، كانا يريدان في هذه المرحلة معرفة ما إذا كان ما في بال الأول ممكنا أم لا. وفي هذه الخطوة تم تصوير المشاهد على نحو متوال من دون تمثيل (أحيانا ما تمت الاستعانة بأشخاص يقفون في المكان الذي سيقف فيه الممثل). كان في أيدي المخرج ومدير التصوير خارطة للمشاهد وكلما أتما اختبار مشهد رسما دائرة من حوله تعني أن معاينته تمت بنجاح، حتى وصلا إلى نهاية المشاهد الداخلية من دون عثرات تذكر. كان أليخاندرو قال ذكر لي في لقائي به في مهرجان فينسيا: «أولينا العناية الأولى للمشاهد الداخلية لأنها صعبة. المشاهد الخارجية ليست فقط أقل، بل مشكلات تنفيذها مختلفة». > لكن لم يتم تصوير الفيلم بلقطة واحدة. يبدو ذلك أمرا مستحيلا. - نعم لأنه معقد تماما. في مطلع الفيلم ذلك الهبوط على السلم الضيق بين جدارين مقبضين.. أتذكر؟ * نعم. ذكرني بديكور «دكتور كاليغاري». - تماما. هذه اللقطة تستمر لـ12 دقيقة. تنتقل من مكان إلى مكان وتدخل وتخرج من أبواب وردهات تماما كما هو حال أي مبنى مسرحي تكمن ردهاته خلف الستارة. بعد ذلك لا بد من التكيف مع مقتضيات مشهد آخر. وجدنا أنه ليس من الضروري التصوير بلقطة طويلة واحدة. بل بلقطات طويلة كثيرة. > لكن يبدو لي أن مشهد مايكل كيتون يجري في الشوارع عاريا كان أيضا صعب التصوير إلا إذا كان كل المارة من الممثلين. أليس كذلك؟ - صحيح تماما ولم يكن ذلك في مقدورنا ولا كان هذا سيبدو صحيحا أو طبيعيا. ما فعله أليخاندرو هو الاستعانة بعدد من الممثلين الذين قاموا في وقت تصوير ذلك المشهد المجنون بافتعال مواقف أخرى على مقربة وخارج التصوير استرعت انتباه المارة وأمنت لمدير التصوير وللممثل مايكل كيتون إمكانية تصوير المشهد الليلي بأقل قدر من الانتباه. * عقلية بديعة * بين كل الأفلام الأخرى المشتركة، لن نجد ما هو أكثر تعقيدا، لناحية كيفية العمل، من هذا الفيلم. لكن هل التعقيد أفضل في كل الأحوال؟ استخدم لوبزكي كاميرا صغيرة مثل Arri Alexa M. (من أصغر كاميرات أليكسا) وArri Alexa XT ( وهي الكاميرا الأكبر التي تعرضت منذ ابتكارها قبل 10 سنوات إلى تطورات كثيرة)، لكن لوبزكي ليس مدير التصوير المشارك في سباق الأوسكار لأفضل تصوير هو الوحيد الذي استخدام هذه الكاميرا الثانية. روجر ديكنز استخدم الكاميرا في «غير مكسور» Unbroken، الفيلم الذي قامت أنجلينا جولي بإخراجه حول حياة ذلك الفتى الأميركي الذي تاه وصحبه في عرض البحر قبل أن يلتقطهما الجنود اليابانيون كسجناء حرب في الأربعينات. على ذلك، فالفارق كبير جدا بين العملين لناحية التصوير. لوبزكي الوثاب والمتحرك دوما يبرع في التقاط الحس المناسب لسيناريو أليخاندر والجو الداخلي المقبض، لكن مدير التصوير الممارس ديكنز يستخدم الكاميرا ذاتها بأسلوب كلاسيكي يشهد باستخداماته السابقة للكاميرا الفيلمية عندما كانت هي السائدة قبل صنع كاميرا الديجيتال. بخلفية تحتوي على نحو 70 فيلما، من بينها 11 رشح بسببها للأوسكار (من دون فوز حتى الآن) درس ديكنز المشروع ونفذه بعقلية الأعمال الكلاسيكية البديعة في الستينات والسبعينات. القصة تسمح بذلك: حكاية تنتقل من الريف الأميركي البديع إلى البحر تحت أشعة شمس حارقة ومنه إلى معسكرات الاعتقال، بما تفرضه كل مرحلة من شروط من دون تناقض. اللقطات الكبيرة تشبه تلك التي أقدم عليها فريدي يونغ في «لورنس العرب» وجاك هيلديارد في «جسر نهر كواي» لديفيد لين أيضا و«أسد الصحراء» لمصطفى العقاد سعة ولو أن الأفلام المذكورة تمتعت بكاميرات بانافيجين واسعة و- بالنسبة لفيلم «لورنس العرب» بفيلم مقاس 65 مم. مثل الراحلين هيلديارد ويونغ، ديكنز هو بريطاني الأصل وهو الخيار الأول لكل من يريد أن يصور فيلما تشمل أحداثه المساحات الطبيعية أو يريد منح العمل خامة كلاسيكية. لكن هذا لا يعني أنه لا يستطيع تصوير فيلم تقع أحداثه في مدينة محدودة الأطراف كما الحال في «سجناء» قبل عامين أو في زمن محدد بديكوراته وتصاميمه الإنتاجية المعينة كما «رفوليوشنري رود» الذي وقعت أحداثه في منتصف الخمسينات. * الأعمال الأخرى * ديكنز ولوبزكي هما بالطبع اثنان من المرشحين الـ5 على أوسكار أفضل تصوير سينمائي. الـ3 الآخرون هم روبرت يومان عن «ذا غراند بودابست هوتيل» وديك بوب عن «مستر تيرنر» واثنان بمثابة ترشيح واحد هما لوباش زال ورتشارد ليجيفسكي عن «إيدا». بطبيعة الحال، فإن متطلبات كل فيلم تختلف من واحد لآخر وذلك حسب 3 عناصر: الأول: شغل المخرج وأسلوبه وما يطلبه لفيلمه «The Look». الثاني: السيناريو وما يتطلبه من شغل على التصاميم الإنتاجية الداخلية منها والخارجية. الثالث: مدير التصوير ومهارته في تأمين الغايتين الأولى والثانية. «إيدا»، وهو حكاية من استيحاء الهولوكوست تدور ما بين الأربعينات واليوم، هو الوحيد بالأبيض والأسود. وهو قائم تبعا لأسلوب مخرجه بافل بافليوكوفسكي الذي يفضل تصويرا نصفيا تاركا مساحة فارغة كبيرة تحيط بممثليه، مثل تلك اللقطات التي يصر على إظهار بطلة الفيلم في الزاوية التحتية من المشهد تاركا باقي الصورة مفتوحة على الخلفية. بصرف النظر عن قيمة وأهمية المنوال فإن رتشارد ليجيفسكي (الذي صور أكثر من فيلم للمخرج نفسه) وزال أمنا ذلك الحضور ومنحا اللون الرمادي المعني المجازي المطلوب للفيلم. شغل دك بوب على «مستر تيرنر» كان مختلفا. هو كلاسيكي المنحى كما الحال مع روجر ديكنز، لكن المشاهد لا يمكن له إلا وأن يشعر بأن بوب يؤم ولا يفعل. يستجيب للدواعي استجابة جيدة، لكنه لا يحاول استثمار ذلك على نحو مميز. حين مشاهدة الفيلم فإن حسنات التصوير واضحة، لكنها ليست نموذجية. تنال رضا الجميع لكنها لا تتوق لما هو أبعد من ذلك بكثير. من الصعب أيضا تصور فوز روبرت يومان عن «ذا غراند بودابست هوتيل». هذا الفيلم للمخرج وس أندرسون هو الوحيد المصور بكاميرا فيلم. وفيه شغل جيد من مدير تصويره يؤمن كل التفاصيل الدقيقة التي يطلبها هذا المخرج من الجميع (الممثلون، المصممون، المصورون الخ…)، لكن تمحيص أين يبدأ دور مدير التصوير وأين ينتهي ليس سهلا. الفيلم فيه ديكورات كثيرة أريد لها أن تلعب الدور الأول كجزء من الخيال الفانتازي الجانح، مما يجعل مدير التصوير بومان في أمس الحاجة لتأمين هذا الغرض من دون أي حساب آخر. * في حين أن ديكنز ولوبزكي هما الأكثر اقترابا من تحقيق الفوز، علينا أن نلحظ أن ترشيحات جمعية مدراء التصوير التي ستعلن نتائجها يوم 5 من فبراير (شباط) تحتوي على الأفلام التي رشحها أعضاء أكاديمية الأوسكار باستثناء «إيدا». البديل أوسكار فيورا عن «لعبة المحاكاة». أيضا، وبالحكم على آخر 5 سنوات من نتائج الأوسكار، نلحظ أن الفيلم الفائز بأوسكار أفضل فيلم لم ينل مدير تصويره أوسكار أفضل تصوير. سنة 2010 فاز «خزنة الألم» (مدير تصويره باري أكرويد) بأوسكار أفضل فيلم، لكن جائزة أفضل تصوير ذهبت إلى مورو فيوري عن «أفاتار». سنة 2011 فاز «خطاب الملك» (تصوير داني كوهن) بأوسكار أفضل فيلم لكن جائزة أفضل تصوير ذهبت إلى وولي فيستر عن «تمهيد» Inception وفي عام 2012 نال «الفنان» (تصوير الفرنسي غيولم شيفمان) أوسكار أفضل فيلم لكن جائزة أفضل تصوير ذهبت (وبجدارة) إلى روبرت رتشاردسون عن «أوغو» لمارتن سكورسيزي. في العام التالي نال «أرغو» أوسكار أفضل فيلم (صوره رودريغر برييتو) بينما ذهبت جائزة أفضل مصور إلى كلوديو ميرودا عن «حياة باي». في العام الماضي، 2014، نال «12 سنة عبدا» (تصوير شون بوبيت) الأوسكار لكن جائزة أفضل تصوير ذهبت إلى إيمانويل لوبزكي عن «جاذبية». 3 من الأفلام التي فازت في السنوات الـ5 المذكورة بجائزة أفضل تصوير اعتمدت على المؤثرات الخاصة وهي «أفاتار» و«تمهيد» و«جاذبية». لكننا هذا العام أمام أفلام تخلو من الاعتماد على المؤثرات بما فيها «بيردمان» الأقرب لأن يكون فانتازيا وكابوسا وهذا ما سيزيد المنافسة حدة بلا ريب.