عند كتابة تاريخ المأساة السورية يجدر بالمؤرخين الوقوف مليّاً عند 24 كانون الثاني (يناير) 2012، فقد أضاف إلى حياة السوريين عاملاً جديداً ما زال يفعل فعله في مجريات حياتهم، مأساتهم. وسيزيد استمراره، كما استمرار النظام الكارثي، من قتامة المستقبل الذي ينتظرهم. في مثل هذه الأيام قبل ثلاث سنوات، أعلن «الشيخ الفاتح أبو محمد الجولاني» عن تشكيل «جبهة النصرة لأهل الشام من مجاهدي الشام»، ودعا السوريين إلى «الجهاد» وحمل السلاح. وقتذاك كانت التظاهرات الشعبية في أوجها، وساحات الحرّية تغصّ بالمحتجين السلميين. وعلى رغم عنف النظام وقمعه الوحشي، وما تبعه من بروز بعض مظاهر التسلّح والأصوات الطائفية، غير أنّ الناشطين بغالبيتهم على الأرض والمعارضين السياسيين، آثروا الحفاظ على الوجه السلمي المدني للحِراك الشعبي حينذاك. حتى أن دعمهم مقاتلي «الجيش الحر»، وكان في بداياته، بني على فكرة حماية التظاهرات والمناطق المنتفضة. لعل ذلك يفسّر عدم إيلاء إعلان الجولاني اهتماماً كبيراً أول الأمر، إلى جانب كون خطابه مترعاً بعبارات جهادية، ويرى إلى الصراع السوري من زاوية دينية وطائفية. فاستمرّ المتظاهرون برفع شعارات الحرية والكرامة والتركيز على نبذ الطائفية ووحدة الشعب السوري. ما عنى رفضهم الخطاب التحريضي الطائفي. وشكك معارضون بارزون بالتنظيم الناشئ ورفضوا أي دور له في سورية، بل جزم بعضهم بأن النصرة «صنيعة النظام». ولكن إلى حين. فبعد تصاعد وتيرة الهجمات التي تشنها ضد أهداف حيوية للنظام كالمقار الأمنية والعسكرية، حيث بدا كأنها القوة المسلحة الرئيسية في مواجهته، عاد رهط من أولئك «البعض» عن مواقفهم الأولى، وتحولوا إلى مدافعين عن النصرة، واعتبروها «جزءاً من ثورة الشعب السوري». ومع تغلغلها التدريجي في المجتمعات المحلية تسبقها أنباء «انتصاراتها»، عملت على استمالة السكان عبر تأمين المواد التموينية، فبدأت النصرة تحظى باحتضان شعبي في بعض المناطق. وغدت شريكاً أساسياً في «الهيئات الشرعية». لكن سعيها لفرض نموذجها الديني المتشدد، أدى أحياناً إلى تظاهرات ضدها في أرياف إدلب ودمشق، وبعض أحياء حلب. بدا واضحا أنّ للنصرة الأساليب ذاتها التي اشتهر بها تنظيم «القاعدة» في العراق، المعروف آنذاك باسم «دولة العراق الإسلامية»: عبوات ناسفة تستهدف آليات ومواقع عسكرية، سيارات مفخخة يقودها انتحاريون، تفجيرات في مناطق مدنية. كذلك طريقة عمل ذراعها الإعلامية «مؤسسة المنارة البيضاء». تلك المؤشرات وغيرها الموحية بارتباط النصرة و «القاعدة»، حملت الولايات المتحدة الأميركية على إدراجها ضمن لائحة المنظمات الإرهابية في كانون الأول (ديسمبر) 2012، وذلك قبل أشهر من مبايعة الجولاني صراحة لـ «القاعدة» وزعيمه أيمن الظواهري. اللافت أنّ جهات من المعارضة السورية، عادة ما تهاجمها النصرة وترفض الاعتراف بها، استنكرت القرار الأميركي، ودفعت باتجاه تسمية تظاهرات يوم الجمعة التي تلت القرار بأسبوع «لا إرهاب إلا إرهاب الأسد»، للتضامن مع الجبهة، ورفض تصنيفها كمنظمة إرهابية. ولم يلن دفاع هؤلاء عن النصرة حتى بعدما باتت الفرع الرسمي لتنظيم «القاعدة» في سورية، وذلك في 10 نيسان (أبريل) 2013، بعد قرار «أمير دولة العراق الإسلامية» أبو بكر البغدادي ضمّ النصرة إلى تنظيمه، ثم رفضِ الجولاني ذلك ومبايعته الظواهري، وقرار الأخير باعتبار جبهة النصرة «فرعاً مستقلاً لجماعة قاعدة الجهاد يتبع القيادة العامة». ومعلوم ما تبع ذلك من تمرّد البغدادي على الظواهري، وصولاً إلى إعلان نفسه «خليفة». لم تتوقف الحرب الكلامية والاغتيالات المتبادلة بين النصرة وبين تنظيم الدولة، وهي مرشحة للتصعيد مع اتساع مناطق نفوذ كليهما، وسعي كل فريق إلى احتكار راية الجهاد. وهو صراع يُضاف إلى جدول حرب كل منهما المركبة على النظام والأكراد والجيش الحر والكتائب الإسلامية التي تصف نفسها بالمعتدلة. ثمّة استثناءات محدودة للنصرة، إذ تنسق مع مجموعات معينة في بعض الجبهات لأسباب تكتيكية. إن تباين الآراء في شأن الملابسات التي شابت علاقة النصرة بتنظيم البغدادي، أو البحث عن فروق بينهما وانحياز البعض للنصرة نظراً إلى اقتصادها في الذبح قياساً بما يمارسه تنظيم «دولة الخلافة»، لا يلغي خروج كليهما من رحم «القاعدة». فالفارق في الدرجة لا النوع، حيث تختلف الأولويات وبعض الممارسات وربما نسبة الاختراق الأمني. لكن التنافس بينهما قائم ضمن مجال واحد ينهل من نهج «القاعدة» ويسعى إلى تحقيق أهدافه. وعلى رغم الشرخ الذي أصاب «القاعدة» نتيجة الخلاف ذاك، وانتقال آلاف مقاتلي النصرة للقتال تحت راية البغدادي، ولاحقاً لمساندة دولته المزعومة، استمر تدفّق الجهاديين للقتال في صفوف النصرة، بصفتها الفرع الرسمي لـ «القاعدة». والنصرة التي أعلن زعيمها منذ اليوم الأول أنها لم تظهر إلا «لإعادة سلطان الله إلى أرضه»، تتمدّد وتوسّع مناطقها العملياتية داخل لبنان، من عرسال إلى بيروت وطرابلس وغيرهما: مواجهات مع الجيش، خطف وذبح جنود، تفجيرات انتحارية. كما تحثّ الخطى لإحكام قبضتها على مزيد من المناطق السورية الخارجة عن سيطرة النظام، أو ما يحلو للبعض تسميته «المناطق المحررة»، مما لم تطله بعد سلطة دولة البغدادي. أو ما تبقى من جيوب تسيطر عليها مجموعات يقال أنها تتبع «الجيش الحر». دماء غزيرة جرت، مواقف كثيرة تغيّرت وأوضاع تبدّلت. وفي حمأة التحولات العجائبية التي تزخر بها الأحوال السورية، ولأن النصرة «باقية وتتمدد» كرقم صعب في المعادلة السورية على الأرض، لن يكون مستغرباً، مثلاً، أن نجد كتلة تمثل الجولاني ضمن الائتلاف المعارض، بعدما دعاه رئيس الائتلاف خالد خوجة لفك بيعته لأيمن الظواهري زعيم تنظيم «القاعدة»، وذلك بعد ساعات من انتخابه رئيساً للائتلاف!