تمثل العقبات الكبيرة التي يعاني منها الاقتصاد الروسي -على خلفية انهيار أسعار النفط والعقوبات الغربية- أكبر تحدّ يواجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ توليه الرئاسة مطلع عام 2000، تداعياته السياسية والمجتمعية لم تتضح بعد، بيْد أنها ستفرض نفسها في المستقبل القريب إذا استمرت الأزمة وتعثرت الحلول والمعالجات. ما زال رجل الكرملين القوي (الرئيس بوتين) يحتفظ بشعبية جارفة في الشارع الروسي، حيث أكدت استطلاعات الرأي العام نهاية العام الماضي أنه عزَّز شعبيته رغم الأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها روسيا، ومن تجلياتها انهيار سعر صرف الروبل بمعدلات قياسية جراء تداعي أسعار النفط، وما سبقه من عقوبات مالية واقتصادية فرضتها البلدان الغربية، رداً على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وموقفها من الصراع الداخلي الدائر في أوكرانيا. إلا أن أغلبية المحللين والمراقبين السياسيين والاقتصاديين الروس يرون أن عام 2015 يمثل أكبر تحدّ للرئيس بوتين، الذي حكم روسيا بقبضة من حديد في سدة الرئاسة حتى عام 2008، وأثناء توليه رئاسة الوزراء حيث كان الزعيم المقرر في السنوات الأربع التي تولى فيها الرئاسة ديمتري ميدفيدف (رئيس الوزراء الحالي). الخوف من تململ الطبقة الوسطى الصورة تبدو مشوشة في الولاية الرئاسية الثالثة للرئيس بوتين، فالطبقة الوسطى التي تدعمه في المجتمع الروسي فقدت -في زمن قياسي قصير خلال الأزمة الاقتصادية الأخيرة- الكثير من المكاسب التي حققتها على مدار خمسة عشر عاماً، وتردت أوضاع الطبقة الفقيرة بارتفاع أسعار السلع الأساسية، بيد أن ذلك لم ينعكس سلباً حتى الآن على شعبية بوتين، ولم تبرز أي تحركات معارضة ذات وزن ضده، سواء أكانت حزبية أم مجتمعية منظمة أو عفوية. " يذهب بعض المراقبين والمحللين السياسيين الروس إلى أنه حتى خطط التنمية الاقتصادية والبشرية (2020 و2030) باتت أشبه بتقارير الحزب الشيوعي السوفياتي في الستينيات والسبعينيات حول تقدم الاقتصاد السوفياتي على نظيره الأميركي " لكن حسب بعض المحللين والمراقبين الروس، فإن من شأن استمرار تدهور الاقتصاد الروسي أن يحرك مياه السياسة الراكدة في موسكو. فالوضع الاقتصادي المتردي ينذر بمصاعب كبرى، وتأجيل إيجاد حلول -أو الفشل في تطبيقها وعدم كفايتها وفاعليتها- قد يؤدي إلى صدامات وقلاقل مجتمعية تحت وطأة الأزمة وتداعياتها، يجري العمل على منع وقوعها مستقبلاً بحملات إعلامية، تقوم بها النخب السياسية والحزبية ووسائل الإعلام المؤيدة للرئيس بوتين بالضرب على الوتر القومي الحساس، لشحذ الهمم في مواجهة العقوبات الغربية والدعوة إلى تحمل سياسات التقشف التي يفرضها انهيار أسعار النفط. ويُؤخذ على هذه الحملات أنها بمثابة "سلاح ذي حدين"، لأنها ستفتح مستقبلاً على نزعات قومية متصارعة، خاصة في بلد متعدد القوميات والأعراق مثل روسيا، وستعزز قوة المجموعات اليمينية الراديكالية المتطرفة، التي شهدت انتعاشاً كبيراً في تسعينيات القرن الماضي إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، وتراجعت عن واجهة المشهد الروسي في بدايات الألفية الثالثة. كما أن تجدد استخدام سلاح الشحذ القومي قد يقود إلى اتجاهات انعزالية في روسيا، على النقيض من سياسة الانفتاح على الغرب، وجهود الاندماج مع الفضاء الأوروبي والدول المصنعة الكبرى، التي اعتبرت على الدوام من الإنجازات الكبرى التي حققها الرئيس بوتين، وأدت إلى نقلة نوعية في الأوضاع الاقتصادية لروسيا وشبكة علاقاتها الدولية. ومن تجليات تشوش الصورة اليوم، أن الرئيس بوتين خاض -خلال النصف الثاني من ولايته الرئاسية الأولى- حرب كسر عظم مع حيتان الأوليغارشية الروسية، الذين كانوا يتحكمون في القرار السياسي والاقتصادي في عهد الرئيس الأسبق بوريس يلتسن، وعمل بوتين على استعادة الدولة مؤسساتها الاقتصادية لتثبيت نفسه كزعيم قوي في الكرملين. لكن ذلك لم يمنع بعض رموز الأوليغارشية القديمة من الاحتفاظ بمواقعهم، بعد إعادة تموضعهم إلى جانب المناصرين للرئيس بوتين، وظهور رموز جديدة تجد اليوم نفسها متضررة بشدة من العقوبات المالية والاقتصادية الغربية. وفي تقدير مراقبين ومحللين سياسيين روس، فإن الخوف حالياً ليس من تحرك الأوليغارشية وحيتان المال الذين ليسوا في وارد المواجهة مع الكرملين، وإنما من الطبقة الوسطى التي تأثرت كثيراً بسبب الأزمة الحالية من الناحية المادية، وتعاني من سياسة التضييق على وسائل الإعلام وتقييد الحريات كما ظهر جليا في السنوات الماضية. ويلفت بعض المراقبين والمحللين إلى أنه بعقد مقارنة بين المصاعب والمشاكل الاقتصادية التي عانت منها روسيا في تسعينيات القرن الماضي والمصاعب الراهنة، يلاحظ أن الانهيار الاقتصادي في عهد يلتسن لم يترافق مع تقييد للحريات. وكانت وسائل الإعلام تعمل بهوامش حرية أوسع بكثير من الوقت الحاضر، ويخلص أولئك المراقبون إلى أن روسيا تقف اليوم أمام مشكلة صعوبات اقتصادية كبيرة وشائكة مع التضييق على الحريات، مما يعني ارتفاع حرارة المرجل كثيراً، خاصة مع ضعف قدرة الحكومة على اشتقاق معالجات وحلول سريعة وناجعة للنهوض بالوضع الاقتصادي، والإقدام على إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية واسعة. ثمن تأخر الحلول منذ بداية عهد بوتين وأثناء حكم بديله ميدفيدف، برز في الخطاب السياسي والإعلامي الروسي تركيز على محاربة الفساد، وضرورة تخفيف اعتماد الاقتصاد الروسي على النفط والخامات لإخراجه من طابعه الريعي. وكذلك الدعوة إلى إنجاز حزمة من الإصلاحات القضائية، لكن الواقع حتى الآن يكشف أنه لم يتحقق تقدم كبير في هذه المجالات، وأن العديد من الشعارات ما زالت مجرد مانشيتات تعبوية. " تعرف السلطات الروسية أن أفضل طريقة لمواجهة الأزمة الاقتصادية والمعركة السياسية مع الغرب، هي الانتعاش الاقتصادي أو رفع سقف الحريات أو كلاهما إن أمكن ذلك. وفي تقدير خبراء في الشأن الروسي، فإن موسكو غير قادرة على فعل أي من الأمريْن المذكوريْن " ويذهب بعض المراقبين والمحللين السياسيين الروس إلى أنه حتى خطط التنمية الاقتصادية والبشرية (2020 و2030) باتت أشبه بتقارير الحزب الشيوعي السوفياتي في الستينيات والسبعينيات حول تقدم الاقتصاد السوفياتي على نظيره الأميركي، وتوفير المسكن المناسب والسيارات لكل العائلات، وغيرها من الوعود التي كان يفتقر المواطن السوفياتي آنذاك إلى تطبيقها. المراهنة الروسية للتعويض عن خسارتها في العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي، تستند في جزئها الرئيس إلى التعويل على علاقات متطورة مع مجموعة "بريكس"، لا سيما الصين التي وعدت بأنها ستساعد روسيا في التغلب على الصعوبات التي تواجهها، وتحديداً دعم الروبل لوقف تهاوي سعر صرفه أمام الدولار واليورو. تحليل أعمق للأمور يكشف أن الصين ليست في وارد الدعم المباشر والواسع لروسيا الاتحادية رغم كل الإعلانات الصادرة عنها في هذا الصدد، وهي تسعى إلى الاستفادة بأقصى ما يمكن من الأزمة الروسية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لفرض شروطها على روسيا في مجال توريدات الطاقة بأثمان أرخص، عبر عقود طويلة الأجل مع شركتيْ "غازبروم" و"روس نفط". وتؤكد الأرقام أن بكين -التي باتت أكبر دائن للاقتصاد الأميركي وأكبر مصدر للسوق الأميركية- لا يمكن أن تغامر بالوقوف المباشر مع موسكو في صراعها مع الغرب بسبب الأزمة الأوكرانية. فاتورة تفويت فرصة لن تتكرر بالعودة إلى ارتفاع وتيرة الشحذ القومي في مواجهة الأزمة الاقتصادية والمعركة السياسية مع الغرب، يركز الخطاب السياسي والإعلامي في موسكو على مخططات غربية لتصدير ثورة ملونة إلى روسيا، وهو ما أعلنه صراحة بوتين وميدفيدف ولافروف في أكثر من مناسبة، وتعرف السلطات أن أفضل طريقة لمواجهة الأزمة هي الانتعاش الاقتصادي أو رفع سقف الحريات أو كلاهما إن أمكن ذلك. وفي تقدير خبراء في الشأن الروسي، فإن موسكو غير قادرة على فعل أي من الأمريْن المذكوريْن، لأن نموذج النمو الاقتصادي في روسيا المعتمد على النفط والغاز ولّى إلى غير رجعة، وكان يجب استغلال سنوات الطفرة 2003-2008 من أجل بناء نموذج جديد للاقتصاد، وفُوتت هذه الفرصة التاريخية التي لن تتكرر بسهولة. كما أن رفع سقف الحريات قد يولّد حركات معارضة تنذر بانفجارات أكبر، لأن ما يُقدَّم في وسائل الإعلام الروسية -حسب وجهة نظر العديد من المراقبين- رؤية أخرى لا تعكس حقيقة وحجم المصاعب التي يرزح الاقتصاد الروسي تحت وطأتها. وتخفف وسائل الإعلام الروسية من أهمية وأبعاد الانخراط في الصراع الأوكراني الداخلي وتداعياته، والثمن الكبير لضم شبه جزيرة القرم على مستقبل روسيا وعلاقاتها مع أوروبا، التي لن تقف مكتوفة الأيدي أمام تغيير خريطتها السياسية. كل ذلك يدفع نحو الاعتقاد -لدى شريحة واسعة من المحللين والمراقبين السياسيين والاقتصاديين الروس- بأن عام 2015 سيكون أصعب أعوام حكم الرئيس فلاديمير بوتين.