قد يرى فريق من الناس أن لكل ملك من ملوك الدولة السعودية في مرحلتها الثالثة نهجا خاصا أو سياسة تغرد بعيدا عن الثوابت التي بنيت عليها الدولة، وهذا مخالف للحقائق والوقائع؛ صحيح أن لكل قائد طريقة ورؤية في أسلوب الإدارة وفي التريث أو الإسراع في خطوات البناء والتحديث، وهذا أمر طبعي، فلن يتناسخ القادة سمات شخصية واحدة؛ ولكنهم ينطلقون من مبادئ ثابتة ويهدفون أيضا إلى تحقيق غايات مشتركة، وإن اختلف الأسلوب أو تريثت الخطى أو تعجلت طريق الانفتاح والنهوض! هذا ما أكدته الحقب التاريخية التي مرت بها بلادنا في كل المراحل السابقة من عام 1343هـ حين استعاد الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله- مكة المكرمة وانطلق مبكرا في وضع البنى الأولى لتحديث الدولة والمجتمع على الرغم من أول ردة فعل لخطوات الحديث المبكرة المتئدة تمثلت في احتجاج «إخوان من طاع الله» على ما جد من خطوات تطوير كالبرقية ولباس العسكر والتعليم النظامي والقناصل وغيرها مما كان يلحظه البداة والأميون والمتشددون؛ ففي التعليم افتتح -رحمه الله- المعهد العلمي السعودي بمكة 1345هـ ثم أنشأ مدرسة تحضير البعثات بمكة أيضا 1355هـ، وافتتح دار التوحيد بالطائف 1368هـ وافتتح كلية الشريعة بمكة عام 1369هـ لتكون نواة لجامعة أم القرى، وشمل التأسيس الأبعاد الإعلامية؛ حيث انطلقت أم القرى برؤية جديدة تختلف عن تاريخها القديم حين كانت «القبلة» في عهد الحسين بن علي، ثم بعد سنوات قليلة في 28-12-1349هـ صدرت صحيفة «صوت الحجاز» في جدة لترفع الصوت عاليا جريئا إلى الخروج من ربقة التقليد وهيمنة العادات التي تقف حاجزا دون الأخذ بأسباب الحياة الحديثة، واحتمل الجيل الشاب من أبناء جدة في الخمسينيات الهجرية من القرن الماضي مصاولة المحافظين والتصدي لدعاوى الاستسلام للتقاليد دون تمحيص ولا تمعن ولا وعي بما ينطلق منه العالم في بنائه الحضاري كالعلوم التطبيقية واكتشافات العصر، وهكذا سار الملك المؤسس في مجالات الدبلوماسية والعلاقات مع الدول الكبرى والانفتاح السياسي والبعثات -وإن بتحفظ- مراعاة للمجتمع -آنذاك-، ثم انطلقت الدولة في التحديث بصورة أشمل وأكثر انفتاحا في الرأي في عهد الملك سعود -رحمه الله- فخلال عشر سنوات فقط وضعت لبنات تأسيسية كبرى؛ حيث افتتحت أول جامعة؛ وهي جامعة الملك سعود عام 1374هـ، وأضيفت لبنات مهمة في المواصلات والطرق والهاتف والمستشفيات ودعم ذلك حراك ملحوظ في حرية النقد وتبادل الرأي من خلال الصحافة، وفي عهد الملك فيصل -رحمه الله- تواصل البناء وأخذ أبعادا جديدة دعمها الإعلام؛ حيث انطلقت إذاعة الرياض 1384هـ ثم تلفزيون الرياض 1385هـ وتوالت الإضافات التنموية محفوفة بخطاب سياسي مواجه للتيارات الأيديولوجية والسياسية التي كانت تعصف بالعالم العربي في تلك المرحلة؛ كالشيوعية والقومية والبعث وسواها، وتبنى الفيصل خطاب التضامن الإسلامي ليحمي البلاد من خطر الأيديولوجيات المنحرفة ويقف أمام الصوت القومي المندفالثائر الذي كان يشكل تهديدا على استقلال الأقطار العربية وحريتها؛ كما حدث من تدخل ناصري في اليمن، وفي عهد الملك خالد -رحمه الله- أخذت التنمية فضاءات أوسع وأشمل مستفيدة من الطفرة في أسعار البترول التي قفزت إلى ما يقرب من أربعين دولارا، ولولا ما حدث من ارتباك وتعديل في اتجاه التحديث بعد حادث احتلال الحرم المكي الشريف عام 1400هـ وإلا لسار الخط التحديثي في طريقه متصاعدا دون عوائق تذكر. وفي عهد الملك فهد -رحمه الله- استمر البناء وتوسع الإنجاز؛ وبخاصة في الفترة الأولى من عهده على الرغم من تراجع أسعار البترول إلى 7 دولارات للبرميل، ثم أعاقت الأحداث السياسية الكبرى كثيرا من طموحات الملك فهد في إنجاز كثير مما كان يخطط له كما تحدث عنها في خطاباته السياسية، إضافة إلى ما حدث من انقياد واستسلام للرؤى المتشددة التي نتجت بعد حادث احتلال الحرم الشريف على يد عصابة جهيمان. يتبع