×
محافظة نجران

"الرشود" يباشر عمله محافظاً لبدر الجنوب بنجران

صورة الخبر

في الجزء الأول من هذه المقالة تكلمنا عن الشق الحركي من النظرية الديمقراطية الذي يتناول آلية تداول السلطة سلميا في المجتمعات المدنية الحديثة التي بموجبها تتم عملية اختيار رموز السلطة (النخبة الحاكمة). بالرغم من العيوب التي تشوب العملية الانتخابية، أظهرت الممارسة الديمقراطية أن آلية الانتخاب لا يوجد بديل عملي لها لقياس توجه الإرادة العامة في تحديد قوى الحكم والمعارضة في المجتمعات الحديثة، وقت إجراء الانتخابات. كما أنه ليس هناك من معادلة كمية لتحديد من يدخل إلى السلطة ومن يخرج منها غير معادلة الأغلبية مقابل الأقلية، في فترة تاريخية معينة. لكن طقوس الديمقراطية شيء، وجوهرها شيء آخر. النظرية الديمقراطية لا تهتم بمن يحكم، بقدر اهتمامها كيف يحكم من اختير ديمقراطيا لتقلد مسؤولية الحكم. جوهر الديمقراطية يهتم بمعضلة الديمقراطية الأساسية، التي تكلم عنها تشرشل، شأنها شأن أي أسلوب آخر في الحكم: كيف يمكن أن نحد من سلطة من يحكم حتى لا تتجاوز السلطة الغرض منها لتتعدى أو تعتدي على حريات وحقوق المحكومين. فالديمقراطية تعني: ليس فقط ضمان حماية الأقلية من احتمال استبداد الأغلبية، بل أيضا في التحقق من عدم خروج شرعية السلطة عن مصدرها الأساسي الذي هو، في نفس الوقت، موضوعها الأساس: الإرادة العامة للشعب، ليتحقق شعار الديمقراطية (حكم الشعب نفسه وبنفسه ولنفسه). وهذا يتحقق بالتالي: إشغال السلطة بنفسها، حتى لا تكون لديها رفاهية تجاوز حدود صلاحياتها للتعدي على حريات الأفراد والجماعات وحقوقهم. وهذا يتم عن طريق إعمال الصراع على السلطة بين مكونات السلطة نفسها، امتدادا للحراك المجتمعي خارجها. هناك مقولة دائما ما تتردد في هذا السياق: الحكومات الضعيفة هي أفضل أنواع الحكومات. ضعيفة هنا، بمعنى: مقابل حريات وحقوق أفراد المجتمع، وليس بمعنى الضعف في مستواه المجرد، تجاه أي تهديد إستراتيجي للدولة ونظامها السياسي، داخليا كان أم خارجيا. وهذا لا يتأتى إلا عن طريق تفتيت السلطة وتشتيتها، عن طريق الأخذ بصيغة الفصل بين السلطات (Separation of Powers)، ومبدأ الرقابة المتبادلة في ما بينها ضمن ميزان حساس للقوة التناسبية (Check and Balance). فكل سلطة من السلطات الثلاث لها نصيبها العادل من موارد المجتمع السياسية، كما لها مجالها الحيوي الحصري الذي تتحرك فيه وتمارس السلطة ضمن نطاقه، بصورة حصرية، مع توفر الحماية الدستورية (الحصانة السياسية) لرموز كل سلطة في مواجهة السلطات الأخرى. وينتج من هذه الخاصية الحركية لصيغة الفصل بين السلطات والمراقبة المتبادلة بينها، عدم وجود سلطة مهيمنة بعينها على النظام السياسي ومؤسساته، عدا سيد الكيان السياسي نفسه (الإرادة العامة للشعب). من هذه الناحية يتميز النظام البرلماني في مقياس الديمقراطية عن النظام الرئاسي. ففي الأول تجزأ السلطة التنفيذية إلى قسمين رئيس الدولة ورئيس الحكومة، فيجري تفتيت السلطة التنفيذية، التي تعد أعتى السلطات الثلاث، من داخلها، مما يقود إلى إضعافها. وبالتبعية تقليص احتمال استبداد السلطة التنفيذية، على بقية السلطات الأخرى، وعلى جمهور الهيئة الناخبة (الشعب) من الناحية الأخرى. وبالتالي؛ وإن كان النظام الرئاسي ليس بأقل ديمقراطية من النظام البرلماني، من حيث الأخذ بصيغة الفصل بين السلطات وآلية الرقابة النسبية بينها، إلا أن نموذج النظام الرئاسي كثيرا ما يكون مرغوبا في نظم بلدان العالم الثالث لتلتقي مع كثير من ثقافات العالم القديم في الشرق من حيث الرغبة في وجود الزعيم السياسي «الملهم» لا رجل الدولة المحترف، الذي تتعدى سلطاته أية سلطات أخرى. من هنا أبدعت ما يطلق عليها التجربة الديمقراطية لبلدان العالم الثالث ما عرف عن رئيس الجمهورية بأنه حكم بين السلطات لتبرير السلطات الواسعة لرئيس الجمهورية التي يمنحها له الدستور. كذلك فإنه في الوقت الذي تنتشر فيه بعض الملكيات في ظل السيادة المطلقة للبرلمان في الكثير من دول غرب أوروبا وكندا وأستراليا واليابان، نجد السلطة أو مؤسسات الرئاسة هي المهيمنة على الأنظمة البرلمانية في بلدان أخرى. الخيط الرفيع الذي يفصل بين مؤسسات الحكم في الأنظمة الرئاسية في أوروبا وشمال أمريكا لا وجود فعليا له في دول جنوب الكرة الأرضية، رغم أن دساتير هذه المجموعة الأخيرة من الدول تنص على صيغة الفصل بين السلطات! ولكن كيف تتم عملية ممارسة السلطة في مجتمعات الديمقراطيات غير المباشرة (النيابية) بعيدا عن المساس بحريات المواطنين، التي تعد لب المشكلة السياسية في المجتمعات الديمقراطية المعاصرة؟ إلى الحلقة الأخيرة من هذه المقالة.