غادر أولريش بيك عالمنا في بداية السنة الجديدة والمخاطر تحدق بنا وبهذا العالم من كل جهة. أذكر بعضاً من نصوص الرجل ومواقفه ومحاضراته، وأذكر النقاشات التي كانت تحتد كثيراً حول آرائه، سواء في الجامعة الألمانية، في تخصصات علم الاجتماع والعلوم السياسية أو على صفحات الجرائد ووسائل الإعلام المختلفة. يومها كان كتابه حول العولمة قد صدر، وقد وجد أحفاد فولفغانغ آبندروت في جامعة ماربورغ في كتابات أولريش بيك وبيير بورديو نصيراً لهم، وكانت غالبيتهم من الناشطين في حركات معاداة العولمة والحركات اليسارية الصغيرة الداعية إلى عولمة من تحت. وبيك لا يعارض العولمة في حد ذاتها ولكن يتساءل عن أي عولمة نريد؟ فالمشكلات التي نواجهها لا يمكن حلها اليوم على مستوى الدولة القومية. وهو ما يدفعنا إلى ضرورة إعادة النظر في مفهومنا عن السياسة. وبلغة أخرى إنه يدعونا منذ كتابه الذي صدر سنة 1986 «مجتمع المخاطرة: نحو حداثة جديدة» إلى سياسة متحررة من الأنانيات القومية، فمواجهة مشكلة كالمشكلة البيئية لا يمكن أن تتم لمصلحة دولة وعلى حساب أخرى. إنها مشكلة تستدعي اتحاداً دولياً، يضم أيضاً إليه منظمات المجتمع المدني. يعتبر هذا الكتاب الذي حاز شهرة عالمية ونشر قبيل كارثة تشيرنوبيل النووية كما لو أنه يتنبأ بها، نقداً لاذعاً لفكرة التقدم التي بنيت عليها الحداثة الغربية، ولمنطق الإنتاجية الذي يخفي بداخله منطقاً لتراكم الأزمات والمخاطر، ويمكن تلخيص رسالته في جملة بيك الشهيرة: «الحاجة تراتبية، ولكن المخاطر ديموقراطية». وبلغة أخرى، فإن المخاطر التي تحيط وتتربص بكوكبنا ستمس الفقير والغني، الدول المتقدمة والمتخلفة على السواء. لقد جاء هذا الكتاب الذي ترجم إلى أكثر من خمس وثلاثين لغة، والذي يواجه الحداثة بعقل عملي وتحليل استشرافي، في مرحلة كان علم الاجتماع الألماني يعيش فيها فراغاً كبيراً. ففي الثمانينات كان صدى مدرسة فرانكفورت ممثلاً بهوركهايمر وأدورنو قد بدأ بالخفوت، واستطاع فعلاً أن يملأ بقوة الفراغ النقدي الذي كانت تعاني منه الثقافة الألمانية. سيعود بيك إلى موضوع كتابه الأول بعد عقدين على نشره، في كتابه «مجتمع المخاطر العالمي»، مستحضراً حلم السلام الأبدي الكانطي ومنافحاً عن قانون دولي جديد قادر على مواجهة الأزمات المنفلتة من عقالها في كل مكان من العالم. وكما نافح عن عولمة من تحت، سيعود في بيانه المشترك مع سياسيين أوروبيين: «نحن أوروبا»، ليدافع عن أوروبا للشعوب ضد بيروقراطية بروكسيل، شأنه في ذلك شأن الفيلسوف يورغن هابرماس. ولن يقف بيك فقط أمام قضايا «كبيرة»، مثل البيئة أو ضرورة استعادة السياسي أو أوروبا أو العولمة، ولكنه سيهتم بقضايا هامشية كالحب والزواج المختلط أو عودة الدين التي شغلته أيضاً في العقد الأخير من حياته، وجاءت لتكذب المقولة الفيبيرية التي رأت أن تقدم صيرورة الحداثة سيدفع بالدين إلى نهايته المحتومة. يميز بيك بين الدين والتدين، لكن ليس بالمفهوم الذي نعرفه في ثقافتنا العربية، فالتدين بالنسبة له شكل ذاتي للإيمان، معتبراً أن هذا الإيمان الذاتي، أو هذا البحث عن إله خاص أو شخصي، يرتبط إلى حد كبير بأفراد على جانب كبير من الثقافة ومستوى تعليمي عال. إن الأمر يتعلق بتدين تحرر من الكنيسة. إن الكلمات التي قالها أولريش بيك في كلمته التكريمية لبيار بورديو بمناسة حصوله على جائزة أرنست بلوخ عام 1997، هي الكلمات عينها التي يمكننا أن نصف بها مشروع بيك التنويري: «كان يريد سوسيولوجيا واقعية، أي متشائمة»، أو في لغة بورديو نفسه: «أفضل أن أكون محبطاً للآخرين، على أن أكون مظللاً أو مخادعاً».