×
محافظة المنطقة الشرقية

المحامي «الفهلوي».. لا تدافع عن الظالم!

صورة الخبر

تُظلم الليبرالية كثيراً حين تُلصق بها مطالبات حياتية طبيعية مثل المطالبة بصالات السينما أو قيادة المرأة للسيارة؛ فليس كل من طالب بذلك ليبراليا أو علمانيا أو تغريبيا إلى آخره من الأوصاف الاختزالية، كما أن الليبرالية بمعناها الواسع أشمل من هذه المطالب وتدور حول مفاهيم الحرية والتعددية والمساواة والتسامح، ولا ترتبط بالتأكيد بما يجري حالياً في المملكة من جدل بين تيارات تطالب بالتحديث وتيارات أخرى ترفضه. منذ أن تأسست هذه البلاد والصراع دائر بين فريقين رئيسيين؛ بين من يريد إبقاء الواقع على ما هو عليه رافضاً أي أمر طارئ قد يغير من طبيعة الحياة التي ألفها من آبائه وأجداده، وبين آخر يريد مواكبة الحياة المعاصرة والحصول على آخر منجزاتها وكل ما يخدمه ويحقق له الرفاه. صراعٌ بسيط ظل كما هو منذ أكثر من ثمانين سنة، ويتجدد وتزداد حدته مع كل منتج جديد يغزو حياتنا، بدءاً من البرقية التي واجهت ممانعة كبيرة، ومروراً بالسيارة والإذاعة والتلفزيون، وانتهاءً بالدش والجوال والسينما. تتغير الوجوه وتتغير المنتجات لكن الصراع هو هو: بين مُطالبٍ بمواكبة العصر وبين رافض لذلك. والممانعة في حد ذاتها طبيعية ومفهومة، خاصة من مجتمع ظل لقرون في عزلة تامة عن العالم، محاطاً بامبراطوريات قومية حرصت على أن يبقى هذا المجتمع معزولاً نائياً قصياً، وقامت في سبيل ذلك بوأد أي شرارة استقلال تنبع من أرضه، حتى جاء عبدالعزيز بن عبدالرحمن - رحمه الله - ليقلب هذا الواقع البائس رأساً على عقب، ويعلن عن ولادة جديدة لهذا المجتمع، نقلته من حال إلى حال أفضل، وجعلته - فجأة - في مواجهة مباشرة مع التطور والتحديث بشكل لم يسبق أن عاش مثيلاً له طيلة تاريخه. فجاءت أجهزة الاتصال البرقية والهاتف، ثم السيارة، ثم جاء النفط بواقع جديد لم يستوعبه أولئك الرافضون لأي تغيير. ولئن كنا نتفهم ممانعتهم، كونها ردة فعل طبيعية وأسلوباً دفاعياً متوقعاً ممن فوجئ بانقلاب جذري يطال حياته، إلا أنه لا ينبغي الرضوخ لهذه الممانعة لأنها ضد التطور وضد مفهوم الدولة الحديثة التي جاء بها الملك المؤسس، فكيف تنهض دولة دون وسائل اتصال ومواصلات حديثة؟ وكيف تنافس دون أن تمتلك سلاح الإعلام؟. لم يكن ذلك مدركاً من قبل الممانعين الذين لم يسعوا لشيء سوى المحافظة على نمط الحياة الذي يعرفونه؛ حتى وإن كان لا يصلح لهذا الزمان. في المقابل كانت الحكومة أكثر إدراكاً لأهمية هذه الوسائل وأصرت على الاستفادة منها رغم كل شيء، وكان لإصرارها نفع عظيم ليس للدولة فحسب بل حتى لأولئك الرافضين الذين أصبحت حياتهم أفضل بفضل أدوات الحداثة تلك، فمن منهم الآن يجادل في أهمية السيارة أو الإعلام؟! قبل التأسيس لم تكن هناك حاجة لأي ممانعة. كان المجتمع إما بدوياً يلاحق الربيع، أو قروياً ينتظر حصاد زرعه، وكانت الحياة مستقرة ولا تخشى على نفسها من أي طارئ قد يخدش سكونها الأبدي. إلى أن تأسست الدولة فجاء معها الواقع الجديد الذي استقر بسببه البدوي في هجرته، وأصبح القروي مدينياً، ونشأ عن ذلك احتياجات جديدة وضرورية، خصوصاً بعد الطفرة المالية التي حققها النفط، فأصبح بإمكان أي مواطن مقتدر أن يحصل على آخر المخترعات الأجنبية التي "تخدمه" في حياته وتلبي احتياجاته النفسية والفكرية والمادية التي فرضها الواقع الجديد. وهذه الأدوات الجديدة التي غزت حياتنا وواجهت ممانعة شديدة في حينها، مثل التلفزيون، لم تأت إلينا بسبب تيار تغريبي يريد إفساد المجتمع!، بل جاءت لأننا ببساطة وجدنا فسحة من وقت ومن مال ومن قدرة على الاتصال والتفاعل مع العالم المتطور، فطلبنا من هناك كل مخترعاتهم التي نعتقد أن حياتنا الجديدة بحاجة ماسة لها. الوضع المادي لأي مجتمع هو الذي يحدد نمط حياته، فلا يتوقع من مجتمع فقير مثل أفغانستان أو بنغلاديش أو الصومال أن يفكر مثل المجتمعات الخليجية الغنية. إن وفرة المال تخلق واقعاً جديداً وسلوكاً حياتياً مختلفاً، كما أن منسوب المادة المتوفر في أي دولة يجعلها بالضرورة تتشابه في أخلاقها واحتياجاتها مع الدول الأخرى التي تمتلك ذات المنسوب، ولا يهم هنا العرق أو الدين أو الثقافة، فالدول الفقيرة تتشابه في سلوكها وفي نمط حياتها، مسيحية كانت أم مسيحية أم بوذية، كما أن الدول الغنية تفكر بطريقة واحدة حتى لو اختلفت مذاهبها، وعلى هذا الأساس فإن الفرد السعودي الذي يطالب بصالة السينما - مثلاً - فهو لا يطالب بذلك اتباعاً لخطة تغريبية، بل لأنه يعيش في دولة غنية ويشعر بالاحتياج الذي يشعر به مواطنو الدول الغنية الأخرى، وأيضاً لأن صالة السينما باتت اليوم عنصراً لازماً وضرورياً للحياة المعاصرة في المدن المتقدمة. إنه احتياج طبيعي لا علاقة له بمواقف فكرية معينة. أين الليبرالية من كل ذلك؟ لا يكفي أن تطالب بالسينما أو بالتحديث لتكون ليبرالياً، فقد يأتيك من يتبنى قضية السينما وهو شوفيني متعصب لقبيلته ويحتقر كل من يختلف عنه، أو يهمش قضايا أخرى مثل قضية قيادة المرأة للسيارة، لذا فإن استخدام مصطلح "الليبرالية" كتهمة ضد كل مطالب بصالات السينما - وبالتحديث عموماً - هو استخدام خاطئ ومضلل وحيلة يلجأ لها الممانعون لتبرير ممانعتهم وليمنحوها بُعداً شرعياً يُلجمون به خصومهم، وليكسبوا المزيد من المؤيدين في معركتهم القديمة التي ظلت كما هي منذ التأسيس؛ بين من يريد تطوير حياته واستجلاب "أدوات" الحداثة، وبين من يرفض ذلك ويريد إبقاء الحال على ما هو عليه.