بعد سنوات طويلة من الغياب يعثر عليه أحد أقاربه بالصدفة في سوق المواشي.. لم يعرفه إلا بعد أن اقترب منه وتحدث معه.. فقد كان رث الثياب يبيع الخراف ويعمل بأجر زهيد لدى تاجر مواشٍ يعيش في البادية.. عاد بسرعة وأخبر عائلته بأن والدهم لم يمت ولكنه يعمل كبائع بسيط في زريبة غنم.. ينطلق الأبناء بسياراتهم الفارهة لسوق المواشي فيعثرون فعلاً على والدهم الذي اختفى فجأة قبل سبع سنوات.. والدهم رجل الأعمال العصامي الذي يملك أموالاً وعقارات ومشاريع لا يمكن إحصاؤها ويتنقل دائماً بين قصوره وفنادقه الفخمة في بريطانيا وسويسرا والنمسا.. لم يشك أحد منهم أن بائع الغنم هو علي العبدالله المياردير الكبير في حين كان هو الوحيد الذي لم يعرف نفسه أو عن ماذا يتحدثون.. حاولوا إقناعه أبناؤه وإخوانه أنه هو الرجل الثري الذي اختفى قبل سبع سنوات ولكنه لم يقتنع.. عرضوا عليه الذهاب معهم للمنزل لعله يتذكر شيئاً فأخبرهم بعدم قدرته على ترك الخراف لوحدها.. وبعد الإصرار والترجي، وشرائهم لكامل الحظيرة وافق على الذهاب معهم.. وحين دخل قصره المنيف لم يصدق أن أحداً يمكنه العيش في مكان ضخم وفخم ومترف كهذا القصر.. شاهد صوره في كل مكان، مع زوجته، وأبنائه، وقرب طائرته الخاصة، وفوق يخته الفخم، فبدأ يشك بهويته القديمة.. بدأ يميل لتصديقهم لأنه هو أيضاً لا يملك ذاكرة عميقة حيث أخبره أحد الرعاة أنه عثر عليه تائها في الصحراء.. لم يكن يعرف اسمه ولا أحداً من عائلته ولا من أين أتى فسكن في خيمة الراعي وبدأ يعمل معه في تجارة الغنم.. فهو (بطريقة ما) فقد ذاكرته وتاه في الصحراء وعاش فيها باسم وهوية جديدين تماماً.. والآن فقط بدأ يشك في أنه فعلاً علي العبدالله التاجر الملياردير الذي عرف بقسوته وتسلطه وقلبه المتحجر (وليس عتيقاً بائع الغنم البسيط).. بدأ خادمه الشخصي يخبره عن أسراره في الماضي وكيف كان قاسياً وعنيفاً حتى مع أصغر العاملين معه .. بدأ يخبره كيف سحق عدداً كبيراً من التجار الصغار بحيث أفلس بعضهم ودخل البعض الآخر السجن بسببه.. أخبره كيف كان زير نساء يغيظ زوجته بعلاقاته معهن علنا حتى ماتت كمداً... لم يصدق أنه كان قاسياً وفظاً لهذه الدرجة وهو الذي كان يبكي حين يرى النعجة تضع مولودها.. لم يصدق أنه متحجر القلب وهو الذي يرفض ربط صغار الماعز بالحبال الخشنة أو وضعها في حوض الونيت ويفضل احتضانها معه في المقعد الأمامي.. فهو كراعي غنم يحنو على الضعفاء، ويسعد بملازمة البسطاء، ولا يحمل هم الدنيا، ويقضي أياماً لا يحمل في جيبه ديناراً واحداً.. وحين أدرك أنه كان قاسياً وظالماً في حياته السابقة قرر إنفاق مايملك من ملايين لمحو سيئاته القديمة.. أصبح ينفق ثروته الجديدة على مساعدة المعسرين وإخراج المساجين وإكرام من ظلمهم في السابق.. ترك لأبنائه الثلاثة أعمالهم الخاصة في حين وزع ما تبقى على الجمعيات الخيرية.. وحين لم يبق لديه شيء على الإطلاق ترك المدينة واختفى مجدداً ليعيش كراعي غنم لا يملك مالاً ولا هوية!! ...هذه القصة حقيقية وحدثت في السبعينات لرجل ثري من الخليج سمعتها مؤخراً من ابنه الذي أصبح عجوزاً.. وحادثة كهذه ليست فقط محتملة بل وتكررت بأشكال مختلفة وحاولت تفسيرها شخصياً في مقال قديم (تجده على النت بعنوان: الحياة من جديد). نقلا عن الرياض