صار السعوديون من الكثرة إلى الحد الذي بات معه المواطن موجودا في كل مكان وفي كل حين على وجه الكرة الأرضية. وقد يكون للكثرة السكانية سبب في هذا الاتجاه (20 مليونا) لكن الوفر المالي في جيوب المواطنين هو ما يدفعهم إلى انتهاز كل سانحة وجيزة أو طويلة من العطلات لتكون حافزا عندهم للتحليق صوب كل المواقع السياحية في العالم، وهكذا عليك أن تتوقع رؤية السعودي حتى في أصغر وأبعد المدن، أو القرى أو المنتجعات في العالم، فمع كثرة ترحلات السعودي صار يميل إلى اكتشاف المناطق غير المشهورة أو المواقع الهامشية، إما رغبة في رؤية أكبر قدر ممكن من المجهول أو ربما رغبة في التميز من خلال الذهاب إلى مكان غير مطروق أو معروف بالنسبة لكثير من المواطنين. وكان السعوديون قبل توحيد هذه البلاد يهاجرون لدواعي العمل كبنائين أو مزارعين وغير ذلك من الحرف، ويدفعهم إلى ذلك قلة ذات اليد وتعذر مصادر الرزق الجيد، خاصة في المنطقة الوسطى، حيث كان أهلها يعتمدون على الفلاحة البسيطة التي تعتمد على بعض مياه الآبار التي بدورها تشح في سنوات الجفاف المطري، ومن هنا عمد بعض أهل نجد إلى الهجرة إلى الشام والعراق (الزبير) كما هاجر بعض سكان المنطقة الشرقية إلى البحرين ومنها إلى الهند وبعض سواحل إيران. لكن اكتشاف النفط أسهم في تغير التوجهات بعد أن أصبحت المملكة بيئة جاذبة ومغرية للعمل والاستثمار، مما جعلها هدفا مغريا لكل الحالمين في صناعة الثروات أو لمن يطمعون في تحسين دخولهم على نحو جعل الوافدين المقيمين للعمل في المملكة يبلغون تسعة ملايين بما يعني أنهم يشكلون أكثر من 45% من عدد السكان، وقبل هؤلاء فقد عاد السعوديون المهاجرون من العقيلات (معظمهم من القصيم) أو الزبيريين (ومعظمهم من منطقة سدير) أو الهولة الذين هاجروا إلى السواحل الإيرانية من ضفاف سواحل شرق المملكة. كان السعوديون يهاجرون قبل النفط وصاروا يسافرون بعد النفط وذلك بسبب القلة سابقا ثم بسبب الوفرة تاليا ولله الحمد. يدفعني إلى كل هذا الكلام حالة من التأمل التي تجتاحني حين أتلمس بعض الإسراف الذي يمارسه بعض من كان آباؤهم وأجدادهم يأكلون الجيف من شدة الجوع ثم تراهم يبطحون الإبل والخراف المذبوحة لعدد محدود جداً من الضيوف لا لشيء إلا لمجرد التعبير عن التقدير والامتنان لهذا الضيف، وكذلك الحال حين نسرف في حفلات زفافنا رجالا ونساء أو فيما استجد من مناسبات دخلت قوائم الاحتفال بها لدى السعوديين كالتخرج أو الخطوبة أو المواليد أو أعياد الميلاد. ولست أنهى عن هذه الاحتفالات الفرائحية، لكنني أتمنى أن تكون بحسبان لا يرقى إلى درجة التنافس في الإسراف والمغالاة في التميز والمبالغة في الاحتفاء، وأحسب أنه يجب أن نتواصى على أن يعذر بعضنا بعضا وأن نعيد النظر جميعنا في طرائق التكريم والولائم والاحتفالات، وأن نرشد في عددها وفي مصاريفها حتى لا نقع تحت طائلة الديون المادية والعقوبة الربانية، كما أنني أتمنى أن نوالي الاستمرار في الإشارة إلى ما كان عليه الأجداد من فقر، وأن يتم تسليط الضوء على تلك المراحل دون أي حياء أو حرج لكي يدرك اللاحق حالة السابق ولكي يثمن النعم التي يرفل فيها. إن مسألة المقارنة بين ما كان، وما هو كائـن تحتاج إلى جهـد توثيقي للأجيال الحالية والقادمة من خلال التأليف الكتابي والمنتج المرئي، وأظن أن دارة الملك عبدالعزيز لديها رصيد وافر من الحكايات والروايات المسجلة من رجالات هذا الوطن الذين عاصروا بعض تلك المراحل، والمسألة تحتاج فقط إلى شيء من نفض غبار هذه الوثائق وعرضها للعامة عبر كل الوسائل، والوسائط لكي نعزز العبرة والتجربة حتى نحمد الله على ما كان وما هو كائن.