لا تنبع أهمية معرضي «ناشيونال غاليري» في لندن و»ريجكز ميزوم» في أمستردام من أصالة تراث المعلم الكبير رمبرانت فقط، وإنما تتجاوز ذلك إلى التخصّص في إنجازه الفني «التراجيدي» على مدى الـ 15 السنة الأخيرة من عمره، أي قبل أن يتوفى عام 1669 عن عمر الثالثة والستين. أو بصيغة أدق: نحن هنا أمام اللوحات الموقعة ما بين عام 1654 وتاريخ وفاته.كان يوقّع مثل المعلمين الكبار الآخرين (تيسيان ورافائيل وميكيل وآنجلو وغيرهم) باسم واحد فقط: «رمبرانت». يستمر المعرض الأول خلال الشهر الأول من 2015 ويتعدى الثاني هذا التاريخ. يشتمل معرض لندن على خمسين لوحة غالبيتها من «البورتريهات» الأخيرة، مع أربعين لوحة محفورة معدنية بارزة. لم يكن لينجز هذا المشروع الثنائي الطموح لولا تعاون المتحفين خلال فترة التحضير الطويلة. يعانق مثلاً معرض لندن عملاً من «بورتريهات» رمبرانت والتي لا تقدر بثمن لأنها تمثّل وجهه في المرآة في آخر لوحة من هذا النوع وقبل فترة وجيزة من وفاته عام 1669 عن عمر الثالثة والستين. يشتمل المعرضان على أربعين لوحة (أوتوبورتريه) لرمبرانت منجزة في الفترة الأخيرة المذكوة، علماً أنه أنجز عشرين أخرى في شبابه. ندرك هنا نباهة الاقتصار على لوحات السنوات الأخيرة. فمن أسرار روحانيته في «الأوتوبورتريه» أنه يمثل تصعيداً داخلياً لفلسفة «المرآة». فإذا كانت المرآة تعكس العالم المرئي فلوحته أو وجهه المرسوم في داخلها يعكس اللامرئي من لواعج الغبطة والتقّرح الوجودي والصمت العبثي الذي يشبه السكون الذي يسبق العاصفة. لقد عرفت لوحاته الشابة بخاصة محفوراته في العقود الثلاثة الأولى رواجاً وشيوعاً وشهرة في أوروبا، فازدادت ثروته وبذخه إضافة إلى الازدهار المادي العام لمدينة التجارة البحرية التي ينتمي إليها (أمستردام). ثم كانت تجاربه الشابة لا تخلو من النساء والمجون والأسفار ومحبة الحياة حتى الثمالة. لكن لوحاته الأخيرة في معرضَي اليوم تعكس الجانب المناقض لأنها تعكس عمق مآسيه وخيباته المادية. لذا فهي أشد نضجاً تقنياً وبسيكولوجياً. إن وطأة مصائب السنوات الأخيرة كانت عميقة الأسى، ذلك أنه كان وقع في هوى فتاة من بلدته هي «ساكسيا» وتزوجها عام 1634 لتنجب له ثلاثة أولاد كان شديد الولع والارتباط بهم مثل أمهم، ثم شاءت الأقدار أن يموتوا الواحد تلو الآخر، ثم لحقتهم أمهم بسبب فرط حزنها عليهم وهي في الثلاثين من عمرها عام 1642، بداية السنوات الأخيرة المظلمة. أنهى في ذلك العام لوحة «دائرة الليل». وبلغت شهرته ذروتها مع لوحة «التشريح» قبل ذلك. ثم ما إن بلغ الخمسين من العمر حتى ابتلي بتراجع مادي فتراكمت ديونه وعزلته حتى أعلنت المحكمة إفلاسه عام 1656، وبيعت كنوز محتويات داره الرحبة بالمزاد العلني بما فيها مجموعة لوحاته التي لا تقدر بثمن، ومنها لوحات لفان أيك وبروغيل وكراناش وروبنز وجوردنز، ثم وضع بيته تحت وصاية زوجته الجديدة (التي كانت تعمل مستخدمة لتربية أطفاله) وأنجب منها ابنته الأخيرة، وصاية لا تخلو من استهانة. كانت لوحات سنواته الأخيرة مسكونة بحزن وجودي يشع بالروحانيّة وصمت الموت أكثر من الميلودرامية التراجيدية. فقد عُرف بتماسكه وتوازنه وقوة شخصيته التي عكستها صوره الشخصية في المرآة (الأوتوبورتريه) أكثر من بقية اللوحات، لكن شخصياته الأسطورية والتصوفية كانت تشبه ملامحه وملامح زوجته وأطفاله إلى حد كبير. تذكّر سيرته الشخصية بإبائه الإبداعي الذي كان يمنعه من حضور مآدب الفنانين في أمستردام، ابتدأت هذه المآدب السنوية في المجتمع المخملي والفني في أمستردام عام 1654 حيث كان الفنانون يحملون أعمالهم الفنية لتباع مباشرة من قبل الأعيان الموسرين، كان يفضل الغياب عن هذا الإسفاف، ويرفض وصاية هؤلاء الأغنياء لفنه. فقد كان يكره الزبون على التسليم بسلطته المطلقة. وقد ازدادت ساعات الانتظار وإنجاز اللوحات خلال السنوات الأخيرة ما سبب إرهاقاً مضافاً لزبائنه الذين انفضوا عن تكليفه بالتدريج. إذا كان البحث في ثنايا سيرته المأساوية يقودنا إلى تفسير جزئي لأصالته وعمقه الروحي فإن عبقريته التصويرية تتجاوز مستوى أي جانب من هذه المعاناة. فكما تربّع جان سباستيان باخ عرش تاريخ الموسيقى فكذلك رمبرانت احتل موقع الصدارة ... وتاريخ الفن يحفظ بصمات تأثيره التعبيري والتقني على عدد من الرواد. بما فيهما تقنيته البليغة في الحفر المعدني الطباعي. اعتمد في تكويناته الملحمية على محاصرة ظلمة الليل لبقعة ضوء الشمعة بصيغة روحانية اختزالية. نشهد لديه مساحات رحبة من الظلمة ومساحات أقل رحابة من درجات النور، لكن عبقريته التقنية تدفع بالظلمة إلى الانتماء برهافة درجاتها الكالحة فأي ذرة مادية تستبطن نوراً نورانياً هائلاً، تضاعف من توخّيه نحت السطح بعجائن ألوان الزيت المتعددة الكثافة والخامات. واستخدام الفراشي العريضة لتبسيط تفاصيل الشكل الباروكي. وهكذا فتأثيره كان مزدوجاً، أولاً مقابلة الظلمة بالنور كما هو لدى أسماء معروفة مثل كارافاجيو وجوردانس وتيسيان وصولاً حتى المدرسة الفرنسية مع دولاتور الذي اختص بنور الشموع، كذلك المدرسة الإسبانية ما بين فيلاسكيز وغويا، وثانياً البعد التعبيري المتأجج بالعاطفة واللوعة... ليس غريباً بعد ذلك أن ينتسب إلى حساسيته التراجيدية فان غوغ. أصالة هذا المعلم الكبير تستشرف بعض معالم تيارات الحداثة التصويرية التي تعتمد على «المواد» في نحت السطح. لنتأمل مثلاً تأثيره في بوسان وآنغر وانتقال هذا التأثير إلى جيل سيزان وإلى «التكعيبية» وتكوينات غويا ومحفوراته المعدنية وأعمال أنطوني تابييس. لنتأمل مثلاً جذع الثور المسلوخ في لوحة رمبرانت ومشاهد الذبح المجازية لدى المعاصرين من سوتين وحتى غوتوزو. ألا يحق لنا بعد ذلك أن نقارن عرشه التصويري بعرش باخ الموسيقي؟