عندما تقف أمام الكاميرا فإنها تصبح الشخصية الرئيسة فورا، حضورها الطاغي، وصوتها السينمائي، نعم صوتها السينمائي، السلام الذي يحمله الحمام الأبيض صوت لا نسمعه. نشعر به ونراه. الدول التي ترفض مبدأ الاعتداء وتؤمن إيمانا عميقا بمبدأ السلام صوت لا نسمعه أيضا، ولكننا نشعر به، فاتن حمامة "هلفيتا" القرن العشرين، وعاصمة الفن العربي وصوت السينما العربية الخالد. لم يطلق عليها اسم فاتن حمامة عبثا بل بعد محرقة كمحرقة سويسرا التي سميت بذلك اشتقاقا من الكلمة الألمانية "سويتس" التي تعني في لغتنا العربية "يحرق"، ليس صدفة أن تكون دولة السلام سويسرا مشتقة من كلمة تعني الحريق، السلام لا يأتي إلا بعد محرقة كبيرة، وفاتن حمامة لم تأت إلا بعد مليون عام من الحرب بين الخير والشر لتعلن فاتن بحمامتها البيضاء أن هذه الحرب لا تنتهي، ولكنها قررت أن تكون في المنتصف قائدة لعمليات السلام، مثل سويسرا تماما التي حافظت على حيادها في الحروب، رغم التهاب حدودها بالحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، إلا أنها كانت الفاصل بين الخوف والأمان, الفاصل بين النار والماء وبين الهدم والبناء وبين الموت والحياة. لا يمثل لي شيئا وفاة الفنانة فاتن حمامة، فالرسالة التي تقدمها لن تموت، الرسالة ليست علنية بالضرورة، قد تكون أحيانا في الصمت، في لقطة عابرة في أحد أفلامها، أو مشهد صامت في تلفزيون قديم بالأبيض والأسود لا يعرف الألوان التي نتلون بها الآن، شاشة ليست لديها خيارات كثيرة إما أم تمنحك سوادها أو بياضها وغالبا ما تمنحنا اللونين كرسالة أن الخير والشر لا يفترقان. فاتن حمامة القادمة من زمن الأبيض والأسود تقف في مشهد صامت، ينساب من خلاله موسيقى خاصة، وتجلس على حافة الشرفة تنظر إلى مكان بعيد لا يحجبه كروية الأرض ولا تضاريسها، في مشهد لا صوت له لنسمعه، ورغم ذلك نشعر أن له صوتا يبقى ولا يرحل، حتى بعد الرحيل، حتى بعد أن تموت الشاشة تبقى فاتن حمامة سيدتها وصوتها وبياضها. مناطق "شفوتز" و"اونترفالون" و"اروي" اتحدت في عام 1291 وشكلت "سويسرا" وجاهدت للحصول على استقلالها من الإمبراطورية الرومانية المقدسة في عام 1499، ومن ثم انتهجت سياسة الحياد في الحروب وأصدرت أول قانون ومعاهدة لحماية المدنيين أثناء الحروب، عندما أتصفح تاريخ "هلفيتا" أو ما تسمى بسويسرا الآن أشعر تماما بأني أتصفح سيرة "هلفيتا" الشاشة العربية فاتن حمامة، لا أعلم في أي عام اتحد الفن ليشكل فاتن حمامة، ولا أعلم متى أعلن الفن العربي استقلاله من الفن الرخيص، كل ما أعلمه هو منحنا فاتن من أجل النضال الفني وعاهد المجتمع على حماية عشاق الفن ومنحهم السلام بدلا عن الخوف، والفن الخالد بدلا عن الفن الرخيص المهترئ الممزق الذي يموت قبل أن ينشر. يقول المثل السويسري: "ابتعد عمن لا يحب الخبز وصوت الأطفال" وأصحاب الفن الرخيص يكرهون الأطفال ولا يحبون أصواتهم، يتعمدون المشاهد الفاضحة كي نبعد الأطفال، يتعرون بدناءة ورخص من أجل أن نحمل الأطفال إلى أبعد مكان عنهم، مكان لا يصلهم منه صوت الأطفال، وفاتن حمامة تحب الأطفال والخبز، تحب السلام، وكأنها منحت جزءا منها للراهب اليهودي الذي يعيش في القدس، الذي لا يعترف بدولة إسرائيل ولا بالصهاينة وشعاره "الصهاينة ليسوا يهودا" ويناصر القضية الفلسطينية عبر قوله: "لا يمكن صناعة السلام مع الأشرار" ولذلك لا نعترف بإسرائيل الصهيونية، وهم لا ينتمون لليهود ونريد أن نعيش تحت الحكم الفلسطيني الذي نأمل قريبا أن يتسلم الأمر على كل الأماكن في القدس. في اليوم الذي رحلت فيه فاتن حمامة فقدت الشاشة العربية سيدتها، وفقدت سويسرا أكثر امرأة تشبهها، وسيمر زمن قد يطول كثيرا قبل أن تنجب الشاشة العربية سيدة مثلها، سيدة تحمل حمامة بيضاء بفتنة، وتقف قبل الغروب بقليل في المنتصف بين الخير والشر ترفع راية السلام.