فيما بدأت تتفسخ أواصر «اللحمة الوطنية» التي هيمنت على المشهد السياسي الفرنسي بعد أحداث 7 و8 و9 يناير (كانون الثاني) الجاري في باريس وفي إحدى ضواحيها، بسبب التباين في الرأي لجهة التدابير الأمنية الواجب اتخاذها لتلافي تكرار الأعمال الإرهابية على الأراضي الفرنسية، كشف استطلاع للرأي توجهات الفرنسيين وكيفية رؤيتهم لما يتعين على الحكومة القيام به في الداخل والخارج. يريد الفرنسيون الذين أخذوا يعيشون في هوس الإرهاب أن تتعامل الدولة بشدة مع الفرنسيين أو المقيمين على الأراضي الفرنسية الذين تثبت علاقتهم بأعمال إرهابية أو لاتصالهم بمنظمات إرهابية. وبحسب استطلاع لمعهد «إيفوب» نشرت نتائجه أمس صحيفة «VSD» الأسبوعية، فإن أكثرية ساحقة من الفرنسيين تريد إسقاط الجنسية الفرنسية عن الذين حصلوا عليها بالتجنس. وتبلغ هذه النسبة 81 في المائة. ويريد 68 في المائة من الفرنسيين حرمان مواطنيهم الذين التحقوا بمنظمات إرهابية من العودة إلى فرنسا وهي النسبة نفسها التي تريد منع الفرنسيين الذين يرغبون في الالتحاق بمنظمات إرهابية من مغادرة البلاد. بيد أن هذه المقترحات تواجهها عقوبات قانونية. فإذا كان إسقاط الجنسية أمرا ممكنا عن غير فرنسيي الأصل، فإن إسقاطها عن الذين ولدوا فرنسيين غير ممكن دستوريا. ولذا، فإن هذا التدبير لم يكن تنفيذه واردا لأن الأخوين كواشي وأحمدي كوليبالي فرنسيون بالولادة. كذلك لا تستطيع السلطات منع مواطنيها الفرنسيين من العودة إلى بلدهم. لذا، فإن حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية اليميني المعارض اقترح حرمان هذه الفئة من الأشخاص من حقوقها المدنية وإدخالها في خانة «فاقدي الشرف» التي أوجدت عقب الحرب العالمية الثانية للذين تعاونوا مع المحتل النازي. بالمقابل، فإن تدبير منع الذين يظن أنهم يريدون الالتحاق بالتنظيمات المتطرفة منصوص عليه في القانون الصادر في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي والذي سيدخل حيز التنفيذ قريبا جدا. ويبن استطلاع الرأي انقسام الفرنسيين أنفسهم الذين نزلوا بالملايين يوم الأحد 11 يناير إلى الشوارع للتعبير عن دعمهم لمجلة «شارلي إيبدو» الساخرة، إذ أن 42 في المائة منهم تفضل تلافي جرح شعور المسلمين والامتناع عن نشر رسوم إضافية تعد مسيئة للنبي محمد. كذلك يتبدى الانقسام التام لجهة فرض الرقابة على شبكة الإنترنت. أما بالنسبة للسياسة الخارجية، فإن أكثرية 57 في المائة من الفرنسيين لا تريد أن تقوم بلادهم بعمليات عسكرية إضافية في الخارج (سوريا، اليمن) ردا على الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها مؤخرا. وترتفع هذه النسبة إلى 63 في المائة عندما يدور السؤال حول معرفة ما إذا كان يتعين على باريس تكثيف عملياتها العسكرية في العراق إلى جانب قوات التحالف الدولي. وبكلام آخر، فإن الفرنسيين لا يريدون مزيدا من التدخل العسكري في الخارج ولا يعتبرون أن مثل هذا التدخل هو الذي سيمنع تعرضهم داخل فرنسا لعمليات إرهابية. الواقع أن موضوع ترجيعات العمليات الإرهابية على السياسة الخارجية بدأ يطرح في أروقة الدبلوماسية الفرنسية خصوصا بعد المظاهرات الدامية التي اندلعت في الكثير من البلدان المسلمة أو العربية والإدانات التي انصبت على نشر رسوم إضافية للنبي محمد. وحتى الآن، تلتزم باريس موقفا «حازما» عبر عنه رئيس الجمهورية بكلام عام يوم الجمعة أمام السفراء الأجانب في باريس عندما أكد أن سياسة فرنسا الخارجية وأداءها لن يتغيرا رغم العمليات الإرهابية والتهديدات بعمليات إضافية. وقال هولاند: «لن نتراجع تحت وطأة الإرهاب»، لن نتأثر بأي ضغوط مهما كان مصدرها. نحن لسنا خائفين وتصرفنا نابع من كوننا فرنسا حيث إن العالم ينتظر منا أن ندافع عن القيم التي نؤمن بها جميعا. غير أن وزير الخارجية لوران فابيوس كان أكثر صراحة عندما سئل عما إذا كانت باريس ستضع حدا لتدخلها العسكري في أفريقيا والشرق الأوسط بقوله: «أبدا، لن نخضع ولن ننزوي ولن نتخلى عن محاربة الإرهاب». وبدل ذلك، فإن باريس تعمل على صعيدين: الأول، تعزيز التعاون الدولي وتبادل المعلومات بين الأوروبيين ومع الدول المعنية والمطالبة بإقامة قاعدة بيانات أوروبية لكل الذين لهم علاقة بالإرهاب من قريب أو بعيد لوضعهم تحت الرقابة الدائمة والثاني تبادل لوائح المسافرين من وإلى بلدان الاتحاد الأوروبي للتعرف على من يدخل أو يخرج منها بواسطة النقل الجوي لاتخاذ التدابير المناسبة على غرار ما تقوم به الولايات المتحدة مع كندا وبريطانيا وأستراليا. عندما ذهب الرئيس الفرنسي إلى مرفأ طولون العسكري حيث كانت حاملة الطائرات شارل ديغول تتأهب للإبحار إلى مياه الخليج ومنها إلى المحيط الهندي، أشار هولاند إلى أن هذا التطور «سيمكن فرنسا من تكثيف عملياتها» في العراق. ويوم السبت الماضي، في مدينة تول (مقاطعة كوريز، وسط فرنسا) أكد هولاند أن الأعمال الإرهابية أو الممارسات التي تستهدف المصالح والرموز الفرنسية مثل العلم الثلاثي الألوان «يجب أن تعاقب إن حصل ذلك في فرنسا أو حتى خارجها». هل هذا سيعني أن باريس ستوسع نطاق عملياتها العسكرية في الخارج ضد أهداف في اليمن التي تبنت «القاعدة» فيه المسؤولية عن مقتلة «شارلي إيبدو» أو ضد أهداف لداعش في سوريا؟ رغم الإشارات الرئاسية، لا يبدو أن باريس ستعمد إلى خيارات من هذا النوع وفق مصادر دبلوماسية غربية في العاصمة الفرنسية. ففي اليمن، ليس لفرنسا دور عسكري حقيقي والدور الخارجي المباشر تلعبه الولايات المتحدة التي تركز على الطائرات من دون طيار لضرب قوافل قادة «القاعدة» ومواقعهم. وفي سوريا، أعلنت باريس منذ انضمامها إلى التحالف الدولي أن مساهمتها مقصورة على داعش في العراق. ولا سبب يدعو إلى الاعتقاد أنها ستتخلى عن هذه المقاربة التي ربطها المسؤولون الفرنسيون بقراءاتهم للوضع في سوريا ولتأثير الضربات العسكرية التي تستهدف داعش «وأحيانا النصرة» وتحيد عن مواقع النظام. ولذا، فإن باريس ستركز، عوضا عن ذلك، على تكثيف مساعدتها العسكرية للمعارضة «المعتدلة» وستساهم بدرجة أكبر في عملية تدريب أفرادها في المخيمات التي ستقام في تركيا وبلدان أخرى في المنطقة مع التركيز على «العمل المشترك» مع بلدان التحالف سواء كان ذلك في العراق أو سوريا أو ليبيا.