تجسد جريمة «شارلي إبدو» في باريس حال تطور مذهل في جسارة الإرهابيين. تعبر أيضاً عن إصرار عنيد من جانب قوى دينية متشددة على أن تحافظ على العنف علامة لهذا العصر. ليس خافياً أن هذه القوى وقوى حاكمة عديدة تسعى إلى إقناع الشعوب بأن العنف سيد الموقف، وأنه مستمر ومتصاعد. الإرهاب بالفعل يتسع ويتجدد ويتنوع. والقوى المناهضة له تكتشف يوماً بعد يوم عجزها، ولكنها لا تتوقف عن إقامة التحالفات والجهر بإنجازات أقلها حقيقي وأكثرها وهمي. والطرفان يحلمان بأن يقتنع الناس في كل مكان من أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا وأميركا وبلاد القوقاز والإيغور بأن خطر الإرهاب قائم ومتصاعد، وأن يقتنعوا أيضاً بضرورة الاستعداد لتقديم تنازلات من حرياتهم وأموالهم وتطلعاتهم في سبيل لجم هذا الانجراف الرهيب نحو عالم وحشي. يقود عسكريون أميركيون تيار المبالغة في تصوير حالة العنف التي تدهورت إليها الإنسانية في السنوات الأخيرة، ويضعون اللوم على الإرهاب ودوره في هذا التدهور. على الناحية الأخرى يوجد مفكرون يدفعون في اتجاه آخر، اتجاه يعتقد أن البشرية تشهد انحساراً في ممارسات العنف من حيث الكم والنوع معاً، على عكس زعم العسكريين الأميركيين والمسؤولين عن الأمن في عدد كبير من دول العالم. يقول الجنرال مارتن ديمبسي، معبراً عن رأي سائد بين قادة مختلف الجيوش في دول حلف الأطلسي، إن العالم يمر هذه الأيام بعصر هو الأعنف في عصور التاريخ. ويرد ستيفن بينكر الفيلسوف والمفكر في سلسلة من الدراسات، بأن العالم إنما يمر هذه الأيام بأقل العصور عنفاً. البشرية، في نظر بينكر، تعيش هذه الأيام حياة تكاد تكون خالية من أنواع من العنف لوثت صفحات كثيرة على امتداد عشرات القرون. أتصور أن غالبية أبناء الجيل الذي أنتمي إليه سوف يميل إلى رأي بينكر ورفاقه. لقد شيد المعلمون والقادة السياسيون وآباؤنا البنى الفكرية لهذا الجيل على أساس أن الحرب العالمية الأولى كانت النموذج البشع والرهيب لعنف الإنسان ضد أخيه الإنسان، فهي الحرب التي سفكت دماء سبعين مليون شخص، وما زالت محشورة في مخيلتنا قصص جنود ماتوا في الوحل والثلوج. ومع ذلك لم يكد يمر عقدان إلا وكانت الدول نفسها تستعد لحرب أخرى مات فيها ملايين آخرون، وانتهت بعمل يمثل أقصى درجة من العنف وبأبشع وسيلة ابتدعها الإنسان ليمارس بها القتل والتدمير، وهي القنبلة الذرية. هذا بعض ما تشكل عن العنف بين الدول في وعي جيل أنتمي إليه. تسربت إلى هذا الوعي أيضاً روايات عن أعمال شرسة ارتكبها الاستعمار الغربي في الدول الأفريقية، وفي آسيا، وبخاصة في الصين، وأعمال أشد شراسة ارتكبها اليابانيون في استعمارهم إقليم منشوريا وحربهم ضد الصين، بينما كان الإيطاليون ينفذون سلسلة جرائم بشعة في الحبشة. إن ما سجله المؤرخون والرواة عن فظاعات جيوش ليوبولد ملك البلجيك في الكونغو، لا تعادله سوى فظاعات جنرالات الجيش الإسباني في حربه الاستعمارية ضد شعوب الإمبراطوريات الهندية في أميركا الوسطى، وحروب الإبادة التي شنها المستوطنون الأوروبيون ضد هنود أميركا الشمالية، وفظائع الغارات الدموية للحصول على الرقيق الأسود، وهي التجارة التي أهلكت النظام الاجتماعي السائد في تلك القارة وشتتت شعوباً بأكملها. كان هناك دائماً من يدافع عن العنف الوحشي في لحظة ما بأنه لن يصل، مهما بلغت بشاعته، إلى درجة العنف التي كانت سائدة من قبل مرحلة العنف الاستعماري. كان الاستعمار في نظر السادة البيض ورجال الدين الذين جاءوا في ركابهم خيراً وبركة لأنه قضى على عادات سيئة كان يمارسها الأفارقة خلال ممارستهم حروبهم «الطقسية»، ويمارسها الهنود خلال عباداتهم ومنها تقديم الأضاحي البشرية للآلهة في المعابد أملاً بدرء الزلازل والبراكين والفيضانات، وطرد العفاريت والجن. كان هناك في كل مرحلة من يزعم أن رسالته هي إخراج مجتمعات حيث الكل يحارب الكل وحيث العنف شريعة القوم، من حالتها «الهوبزية»، نسبة إلى نظرية الفيلسوف الإنكليزي جون هوبز، إلى وضع يحل فيه القانون والنظام محل شريعة الغابات. تجاربنا كبشر، علمتنا أن العنف الجديد يجد بعض مشروعيته في العنف السابق. سمعتها أكثر من مرة على لسان مسؤول أمني أو آخر، سمعت أن القمع الواقع الآن في دولة أو أخرى من دول الربيع العربي، ما هو إلا تحديث لقمع كان واقعاً، وتقوية وتحصين. فالثورات ما كانت لتنشب لو لم تكن هناك ثغرات في حصون القمع والأمن الداخلي، ولو لم يحدث تقصير في شن موجات عنف تستبق عنف المواطنين الغاضبين. هكذا تتوالى دورات العنف البشري. يزداد العنف أم ينقص؟ العنف الذي استفاد من تجاربه السابقة ليحسن أداءه ويضاعف مكاسبه، هو أيضاً العنف الذي انحسر، أو تغيرت ممارساته، تحت ضغط التقدم الحضاري، أو أمام التقدم الهائل في إنتاج أسلحة الدمار الشامل. الدليل الآخر الذي يؤكد الادعاء بأن العنف العالمي انحسر، هو أن الحروب العالمية، أي الحروب التي تنشب منذ بداية نظام الدول بين الحين والآخر، توقفت. آخر الحروب الكبرى كانت الحرب العالمية الثانية - أي منذ أكثر من سبعين عاماً - وبنهايتها انتهت سلسلة من الحروب استمرت لقرن ونصف القرن. توقفت أيضاً، أو كادت تتوقف، الحروب التي تنشب بين الدول المتوسطة والصغيرة. كانت آخر هذه الحروب حرب الكوريتين قبل ستين عاماً والحروب العربية الإسرائيلية قبل أربعين عاماً. أتصور أن الأجيال الجديدة لم تجد الفرصة لتشاهد حاملات طائرات أو بوارج تابعة لدولة تحاصر موانئ وينزل منها جنود إلى أراضي دولة أخرى، أو طائرات ومدافع ميدان بعيدة المدى تدك مدناً في دول متحاربة. لن تعي ذاكرة الأجيال المعاصرة أكثر من عمليات إرهابية، كتلك التي حدثت في وسط مدينة باريس، وتحدث بصفة عادية في مدينة بغداد ومعظم مدن أفغانستان وباكستان، وعلى أبواب كلية الشرطة في صنعاء، وما تنفك تسمعه في مصر من بيانات عسكرية عن أعمال عنف تجري في سيناء وأعمال «أقل عنفاً» تجري على نواصي شوارع في بعض المدن المصرية. بهذا المعنى، لا يكون العنف في العصر الحالي أشد حدة عن العنف في مرحلة أخرى أو عصر آخر. ما يحدث حقيقة هو أن أحداثاً متفرقة من العنف، تحصل على حالة غير مسبوقة في التاريخ، من التغطية الإعلامية، بحيث يصبح الحدث الواحد، بسيطاً كان أم رهيباً، حالة كاملة ومتكاملة من حرب إرهاب. أظن أنه في غياب حروب دولية وعالمية خطرة، وفي غياب أحداث اجتماعية وسياسية مثيرة لخيال واهتمام مشاهدي ومستخدمي وسائط الاتصال الاجتماعي، يعاني الإعلام العالمي، والمصري بخاصة، وهو الذي أعرفه أكثر من غيره، أزمة «في فائض الهواء». بمعنى آخر يعاني نقصاً في المادة الإعلامية اللازمة لإشباع مشاهد «غير عادي»، مشاهد مسيّس وشغوف وواع ومجرب. هذا النقص يدفع بقادة الإعلام الجدد إلى تضخيم حوارات الإرهاب والعنف وتزويدها بالصورة المثيرة والكلام الكبير والتهويل غير المسؤول، حينذاك تبدو الحالة العنيفة أكبر مما هي عليه فعلاً، ويظهر العالم بأسره كما لو كان لا يشغله شاغل سوى إرهاب هنا وإرهاب هناك. واقع الآمر، أنه من دون هذا التهويل وهرولة بعض برامج الهواء الإعلامي، يمكن للمشاهد أن يعتبر ما يشاهده حالات عنف متناثر، شهد مثلها عبر العقود وسوف يشهد مثلها في عقود قادمة. لم يشعر بكثافتها في العقود السابقة لأن الإعلام كان مهتماً بمشاريع وأحلام تنمية وبناء وحضارة ولم ينشغل الإعلاميون بتحقيق دخول عالية ولو على حساب جودة وأمانة الخبر والنقل وموضوعية التحليل. لم تكن الأرباح على أهميتها محرك الأداة الإعلامية، وكانت الرقابة مقصورة على جهة واحدة قبل أن تتعدد مصادرها ومواردها واجتهاداتها ومصالحها. غير صحيح في رأيي أن مظاهر الإرهاب الراهنة، مع بشاعتها، قادرة كما يقول الكاتب الأميركي الشهير ايجانتيف، على خلخلة القشرة الجيولوجية للعالم، أي تغيير معالم الكوكب سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. هذا الانطباع الخاطئ عن عالم عنيف بل وشديد العنف، ناتج من حالة إعلامية متواطئة أو مهملة. لم أسمع مذيعاً يفتتح نشرة إخبارية صباحية بالخبر التالي: «العالم بخير». أو «لم يحدث أمس في أي مكان في العالم حدث إرهابي عنيف. كان يوماً هادئاً هدوء أمس الأول». يظن بعض معدي النشرة ومخططي البرامج أن خبراً كهذا الخبر كفيل بأن يتسبب في أن تفقد القناة مشاهديها الذين يريدون حركة دائبة في شكل عنف، ويفضل لو كان العنف إرهابياً. كانت نتيجة هذا الميل في الإعلام المصري، وربما الغربي أيضاً، إلى تضخيم الحالة الإرهابية أن انكشفت حالات من التحيز الإعلامي الفاضح لمصلحة اختيار ضحايا الإرهاب، والمناظر الأكثر دموية، والمبالغة في تصوير بشاعة الأعداء، واستدراج تعاطف المشاهدين أو كراهيتهم غافلين عن الآثار الخطيرة لإثارة حالات الكره واليأس ونفور الناس بعد قليل من كل الأجواء الإعلامية، وفي النهاية تحميل السلطة السياسية مسؤولية هذه الحالة المتراكمة من بؤس السياسة وبؤس الإعلام. الحاجة ضرورية إلى إعادة «المواطن - المشاهد - المشارك» إلى حال توازن، يحفظ له القدرة على مواصلة الحياة في اطمئنان، واضعاً خطر العنف في موقعه المناسب من حياته ومن حياة الوطن. لا أظن أن جهات كثيرة مستعدة في الوقت الحالي لتلبية هذه الحاجة، فالمبالغة في تضخيم حالة العنف ما زالت تشكل جوهر السياسات العامة، وبخاصة، السياسات الإعلامية الراهنة. * كاتب مصري