بعد فاصل “حدودي” أعود للحديث عن الفيلم الثاني الذي استوقفني للتفكير في قضية شائكة تسري في مجتمعنا دون توفر وسائل مقاومة لها سواء فكرية أو موضوعية لضعف قاعدة حماية الأفكار لدينا واقتصارنا على ظاهر الكلم وظاهر المعاني وحرفيتها التي تحيلها إلى صورة معاكسة، تلوي وتثني وتنفي الحقائق لتتحول الصورة إلى النقيض مُدينةً للمتحدث من حيث لا يدري ولا يعلم. فعودة إلى موضوع كيف "نفسر" ما نسمع وكيف نعالج قضية "الفهم" بحيث نتأكد من أن المتلقي فهم المراد من الفكرة وليس ما يريد أن يفهمه، أعود إلى هذا الفيلم، مجهول الهوية من MGM، وأعتذر مرة أخرى عن عدم توفر معلومات عنه، اسمه، ممثليه أو مخرجه، ما أذكره فقط أن تصويره تم في مباني جامعة كيمبريدج البريطانية، وفي التصنيف العام يعتبر من الأفلام صغيرة الميزانية والمبنية على نص مسرحي. فالفيلم يقوم بأكمله على حوار بين شخصيتين فقط، أستاذ جامعي وطالبة في إحدى مقرراته، وكل الشخصيات الأخرى ترد عرضاً على الهاتف الذي يمثل العنصر الخارجي، ويجري الحوار الطويل بين الأستاذ وطالبته بعد انتهاء محاضرة له ورغبتها في مزيد من الاستفسار حول درجاتها، فتلحق به إلى مكتبه الذي يعكس تقاليد الجامعات البريطانية العريقة في تصميم المكاتب التي هي في الواقع جزء من مكتبات متكاملة يتوارثها الكادر الأكاديمي وتتصل بقاعة اجتماعات مطلة على باحة الجامعة الخضراء والتي تصل بعض أشجارها إلى نوافذ هذه المكاتب الطويلة. ويتنقل الحديث والحوار ما بين القاعتين حيث مكتبه ومقاعده وكتبه وقاعة الاجتماعات من حيث يجلب بعض فناجيل الشاي بعد أن يدعو الأستاذ تلميذته إلى مشاركته في ذلك باعتبار امتداد الحوار إلى المساء. وهو أستاذ في الأدب أو الفلسفة كان ينتظر آنذاك صدور الموافقة على ترقيته إلى درجة ثابتة تُدعى tenure (وهو نظام أمريكي) والتي بموجبها يضمن الأستاذ وظيفته وثبات دخله الذي سوف يخوله أن يستقر مع زوجته وابنه في بيت يمكّنه من دفع عربون شرائه. والمعلومات الشخصية عن الأستاذ تأتي عرضاً ضمن حواره حول موضوع الدرس، الذي لم أعرف على وجه التحديد كنهه، لكن حوار المكتب كان يناقش فكرة الدرجات وفكرة حرص الطلبة على الدرجة على حساب المضمون وعلى حساب العلم نفسه في سياق فلسفي، وهنا تأخذ أفكاره حول التعليم العالي في التداعي، فيصرح برأيه في قصور التعليم بشكل عام لغرسه فكرة أن الطالب أو الطالبة عليه أن يصمّ ثم يختبر فينجح أو يرسب، فيعبر مرة عن كرهه للتعليم، ليستدرك بأنه يكره ذلك النوع من التعليم الذي لا يضيف شيئاً إلى العقول. وخلال كل جزئية من تداعي أفكاره تتداخل الطالبة معه فتستوقفه لتعيد جزءاً من جملته المعقدة فتبسطها وتكتب كل كلمة يقولها، أو هذا ما كان يبدو، وكلما كان يسألها عما تكتب تقول إنها تكتب ما يقول فقط لتتذكره، فيفتح هذا باب موضوع آخر حول أن ما يهمه في التعليم هو أن تعي ما يقول لا أن تصمّه وتحفظه، ويستمر في تفسير هذه الفكرة من خلال طرح بعض الأمثلة التي تأتي من خبرته الشخصية، لتتضح الصورة بعد ذلك بأن الطالبة لديها اعتراض على درجتها، وأن هذا الاعتراض مبني على أنه لا يدرسهم ما ينبغي عليهم دراسته وإنما هي أفكار يستطرد فيها خارج المنهج مما يجعلهم لا يستطيعون متابعة محاضراته، وتعترض الحوار مقاطعات الهاتف الذي كانت عليه زوجته تستعجله كما يبدو ليكمل توقيع عقد البيت، لكن يبدو أن الحوار مع الطالبة أخذ منحى دراماتيكياً عندما كاد فنجال شايها بالسقوط وساعدها في ذلك فاقترب منها بعض الشيء. وننتقل إلى المشهد الثاني حيث يبدو فيه الأستاذ في حالة غير جيدة حيث لم يمض اليومين الماضية في منزله وإنما في فندق ليعيد التفكير في مستقبله بعد أن وصله خطاب من لجنة الترقية تعيد النظر في ترقيته، فتعود الطالبة ويجري حوار آخر يتضح من خلاله أن الطالبة تقدمت بشكوى ضده مبنية على الحوار الذي دار بينهما سابقاً والذي تتهمه فيه أنه لا يدري ما يدرس وأنه أناني ولا يعنيه ما تمر به الطالبة من صعوبات لتدخل الجامعة وتحقق طموحاتها بينما هو مشغول بأفكار فوقية يستخدم لأجلها لغة متكلفة تكرس الطبقية التي ترفضها هي و"مجموعتها" التي يتضح أنها مجموعة متطرفة دينياً وفكرياً. ويصل الحوار إلى حالة من الاحتداد ليجد أنها تساومه على أن تسحب شكواها في حال وافق على التوقيع على تعهد من "مجموعتها" سلمته صورة منه، وجد أنه يقضي بحذف مواضيع من منهجه ومراجع علمية من قائمة المراجع ومن ضمنها كتابه هو، فلم يصدق واستنكر ذلك وهي توضح له أن كتابه في مخالفات فكرية وعقائدية لا يجب أن يُدرس في الجامعة، وعند ذاك رفض تماماً الانصياع وترك لها أن ترفع شكواها كما ترى فهو لن يتنازل عن عصارة فكره التي وضعها في هذا الكتاب الذي يخلد فكره مهما واجه ممن يصادر الأفكار. ثم تأتي مكالمة محاميته التي لم يفهمها، لتشرح له الطالبة أنها في الواقع اتهمته بمحاولة اغتصابها، ووسط ذهول الأستاذ وعدم تصديقه ما تقول والتي كانت تستعرض كلمات قالها في سياق معين وترددها أمامه كدليل على محاولته إغوائها، فقام بإخراجها من مكتبه وسط غضبه الذي تمالكه بصعوبة، لكنها خلال ذلك أطلقت تعليقاً عليه وهو يتحدث مع زوجته على الهاتف بألا يناديها "صغيرتي"، وعند ذاك يتحول المشهد إلى مشهد عنيف حيث يفقد الأستاذ قدرته على السيطرة على نفسه ويعتدي جسدياً على الفتاة بالضرب حتى كاد أن يقتلها قبل أن يستدرك نفسه وقد فلت الأمر من يده وتعقّد أكثر وأكثر وثبّت تهماً عليه، فيطردها من أمامه وقد انهارت كل حياته وأسرته ومستقبله أمام ناظريه دون إمكانية لردمها، وهو يشاهد هذه الفتاة و"مجموعتها" وقد نجحت في تدميره. كانت نهاية قاسية ومخيفة لقدرة التطرف الفكري من الانتصار على العقل، أو هكذا يبدو؟