مرت قبل أيام الذكرى الثالثة لغياب المفكر محمد أركون، الذي توفي بباريس في الرابع عشر من سبتمبر 2010 بعد أن جاوز الثمانين من عمره، ودفن في المغرب، لكنه ظل محتفظا بلياقته الجسدية والعقلية إلى اللحظة الأخيرة، وما خلت نهايته تأتي بسرعة بعد لقائي به قبل مدة من وفاته، وهو اللقاء الأخير بيننا، فقد كان مضيافا، ودافئا، ومحتفيا بي بمنزله، الذي دعاني اليه للعشاء بصحبة أدونيس. وكنا التقينا أكثر من مرة في باريس، وفي الدوحة حيث قدمته للجمهور في أكثر من ندوة فكرية، فردية خاصة به أو جماعية مع نخبة من المفكرين. وكلما التقينا كنت أجده مفعما بالافكار الجديدة التي يريد بها إعادة النظر في التركة التي ورثناها من الماضي وتعديلها بما يوافق العصر الحديث، ويلبي حاجة المجتمعات الاسلامية التي تتنازعها قوى تريد لها التماهي بالغرب، وأخرى التماهي بالماضي، مما أدى الى غياب شرط الحاضر في حياتها. رأى محمد اركون أن الحداثة تجربة ظهرت في سياق الثقافة الغربية في العصر الحديث، ومع نقده لها فقد دعا للإفادة منها، وعلى وجه الخصوص الطريقة التي مارس فيها العقل نقده للظواهر الاجتماعية والدينية، وذلك أفضى به الى دراسة التجربة الثقافية الإسلامية حيث وقع صراع بين اللاهوتي والعقلي، وأجده المدشن الحقيقي للمنهجية العقلية-النقدية في الفكر العربي الحديث منذ أن أعد أطروحته للدكتوراه عن "الأنسية العربية" في حوالي منتصف ستينات القرن الماضي، وفيها استخلص البعد الإنساني للحضارة العربية، حينما كانت الهوية الإسلامية هوية ثقافة لا طقوسا. ثم إن أركون ظل لأربعة عقود مشغولا بعقد المقارنات الثقافية بين الأديان السماوية الكبرى في التاريخ وصولا الى تحديد المشترك الاعلى فيها، وهو الديانة الإبراهيمية، منطلقا من فرضية تقول بأن المرجعية الإبراهيمية إنما هي المنهل الأساس للعقائد السماوية كلها، وقد اثمر جهده عن دراسات معمقة في هذا الجانب، وإلى ذلك فقد نقد الموقف الاستشراقي من الاسلام، واقترح مقتربا جديداً للدرس النقدي اصطلح عليه "الاسلاميات التطبيقية"، ووجه نقدا جذريا للتعصب السائد في الثقافة العربية في الماضي والحاضر، وجعل من الجمود العقائدي موضوعا حاضرا في ممارساته الكتابية، ولعله يكون من أبرز المفكرين المعاصرين الذين استفادوا من الدراسات الانثربولوجية، واللغوية، والاجتماعية. وانصب كثير من جهده الفكري على نقد التفكير الخرافي الرافض للمعرفة العقلية. ولعل القضية التي ينبغي الاشارة إليها في هذا السياق هي تفريق أركون بين الظاهرة القرآنية والظاهرة الاسلامية، فالأولى هي القرآن الكريم، أما الثانية فهي التركة السجالية حوله من شروحات ولاهوت وتخيلات مذهبية، وإذا كانت المجتمعات الاسلامية ملزمة بالظاهرة القرآنية، فقد أصبحت، في العصر الحديث، كما ينتهي أركون إلى ذلك، أقل حاجة للالتزام الأعمى بالظاهرة الثانية التي غزتها الأساطير والاسرائيليات والتحيزات المغلقة على المذهب او الطائفة، مما ضيق على الروح القرآنية للإسلام، فقد آن الأوان لتجديد التصور السائد عن الإسلام من خلال الافادة من المعارف الحديثة. شكّلت هذه الفكرة قاعدة متينة للعلمانية، فالعلمانية لا تهدف الى تهديد الدين، واستبعاده، ومحوه، إنما تسعى للحفاظ عليه كقوة روحية عليا وسامية موجهة للأخلاق العامة، وفي هذا بدد أركون الغيوم الداكنة التي احاطت بالعلمانية في ثقافتنا الحديثة، تلك الغيوم التي جعلت منها الحادا وانكارا وما هي كذلك. ثم إن تبحره الواسع في الثقافة العربية الإسلامية أفضى به إلى تركيز الاهتمام على العروبة الثقافية، وليس العروبة العرقية، فاللغة العربية كانت وسيلة التعبير الاساسية للأفكار والعلوم لمجتمع القرون الوسطى في كثير من بقاع العالم القديم، وكان يفكر بها عدد كبير من الأقوام غير العربية، ولهذا تركت بصماتها في سائر ثقافات البحر المتوسط وفي اجزاء كبيرة من قارتي آسيا وإفريقيا، فالعروبة الثقافية هي الغطاء الثقافي لكثير من الشعوب والأقوام، والهوية الدالة عليها. لاينبغي أن تمر ذكرى رحيل أركون دون أن يصار الى استعادة قيمته باعتباره مفكرا نقديا في مجال الدراسات الاسلامية، ولكن الأهم أن يقع تمثّل أفكاره بما يفيد الباحثين في كل ما يتصل بموقع الدين في المجتمعات الاسلامية، وفي تنظيم العلاقة بهذه الظاهرة الروحية والثقافية.