ليست كل الظواهر السلبية في المجتمع محصورة على سلوك ومفاهيم العامّة بل هناك ممارسات ومفاهيم سلبية حتى في المناشط النخبويّة إن جازت التسمية. الرواية ذلك الفن السردي المدهش ناله هو الآخر التصدع في مشهدنا الثقافي المحلّي. أجزتُ لنفسي اليوم الحديث عن الرواية لعدة أسباب أحدها أنني قارئ دؤوب على الرواية منذ الصغر ولا أبالغ لو قلت إنني قرأت كذا ألف رواية على مدى حوالي نصف قرن. من هُنا أزعم بأنني قد اطّلعت على فنونها ومدارسها وقرأت لكتّابها كبارا محترفين وصغاراً هواة. أما مناسبة إفراد مقالة في هذه المساحة من "حروف وأفكار" فهو بسبب طوفان الرواية السعودية غير المسبوق حتى في زمن سيادة الشِعر ووجود شعراء من كل صنف ولون ومدرسة. أذكر في هذه المناسبة حكاية قديمة لم أنسها حتى الآن. كُنت أدرس في كلية قوى الأمن الداخلي أوائل السبعينيات من القرن المنصرم وكان مُعلّم اللغة الانجليزية وقتها رجل إنجليزيّ قُح اسمه (مستر فيدون) الرجل بكل أمانة كان لطيف المعشر مرحا مع صراحة متناهية. في أول يوم دراسي بعد العودة من الإجازة الصيفية الطويلة دخل علينا رجلٌ لم نعرفه من أول وهلة حتى ضحك فإذا هو مستر (فيدون) ما غيره. تغيرت هيئته كثيرا فقد حلق لحيته الطويلة وبرز كرشه. سألناه عما حدث؟ قال وهو يتحسس كرشه المندلق فوق حزامه "هذا بفعل الأكل والشرب" أما اللوك الجديد فقد حصلت مؤخراً على جائزة مقدارها (50) ألف جنيه إسترليني عن يومياتي التي كنت أكتبها كمعّلم للغةِ الانجليزية لغير الناطقين بها، لم أُخطط لطباعتها كرواية لكن الصدفة دفعتني للاشتراك في مسابقة أدبيّة وها أنا ذا قد أصبحتُ ثرياً فقررت تغيير مظهري. حسناً وماذا بعد يا مستر (فيدون)؟ سأنهي عقدي مع الكلية وأعود لوطني حيث اشتريت منزلاً في الريف سأقضي فيه بقية عمري مسترخيا مع زوجتي أُمارس هواياتي التي حُرِمت منها بسبب مشاغلي. هل ستكتب رواية أُخرى مستر (فيدون)؟ لا أدري، ربما لو وجدت ما يستحق الكتابة، لكنني لن أُزعج نفسي بالتفكير في هذا الأمر. الآن .. أعود للمشهد الثقافي المحلي وأترك للمتابع تخيّل حال بعض ممن كتبوا رواية أو ما يُسمى بالرواية. يا جماعة الكل صار يكتب لدرجة أن قال لي أحد الشباب (يعذرني فقد نسيت اسمه) ممن قابلتهم في معرض الرياض الدولي للكتاب بأنه قد كتب روايته في زمنٍ لم يتجاوز (24) ساعة ويسألني عن كيفية الاتصال بموسوعة (جينيس) للأرقام القياسيّة حتى يُسجل هذا الحدث الفريد..! يرى البعض أن لا مُشكلة في هذا الإغراق الروائي لأنه في النهاية لن يصح إلاّ الصحيح. الكاسب الوحيد في هذا الطوفان حسب ظنّي هم أصحاب دور النشر اللهم لا حسد.