×
محافظة المنطقة الشرقية

ولي العهد يطمئن على صحة خادم الحرمين

صورة الخبر

«كانت رائحة العرب عندي عبارة عن رائحة العطور، ولكن رائحة (أربابي) كانت نتانة متعفنة، نتانة لا توصف!»، تلك أقل عبارة استهزائية وموجزة لعامل هندي من كيرالا يصف «رب عمله» الذي كثيرا ما يخاطب بـ«أرباب» بين العمال غير المهرة القادمين إلى الخليج للعمل. إنها رواية «أيام الماعز»، وهي رواية متوسطة الحجم، صدرت أولا مسلسلة في إحدى المجلات الهندية، ثم بالإنجليزية في عام 2008، وترجمت أخيرا إلى العربية، ومؤلفها ما زال يعمل في إحدى دول الخليج. المؤلف ينقل القصة عن عامل، ولكني أميل شخصيا إلى أن خيال الكاتب قد تدخل في السرد إلى درجة كبيرة، وبما أنها تصف حالة العمالة البسيطة في دول الخليج، فقد وجدت رواجا بين القراء باللغات التي صدرت بها، وربما سوف تجد ذلك الرواج باللغة العربية، فهي من حيث التكنيك مثيرة ومشوقة. الموضوع أخطر من أن يترك دون مناقشة. فالرواية تصف حال مواطن هندي فقير متزوج مؤخرا يعمل في أعمال بسيطة بقريته، نتيجة أن بعض أهل قريته وأقربائه يعمل في دول الخليج، وقد تحسنت حالتهم المادية، فقد قرر، وبتشجيع من زوجته الحامل للمولود الأول لهما، أن يجرب حظه في ولوج الحلم، بأن يكون له دخل يغنيه عن تلك الحالة المزرية التي يعيش فيها، وكان الأمر يحتاج إلى تدبير مال بالنسبة إليه ليس بقليل، حتى يحصل على سمة دخول إلى ما كان يعتقد أنه باب من أبواب النعيم، فيستلف المال ويرهن ما لديه للتجهيز للرحلة. الحلم الخليجي تحول إلى كابوس لنجيب (وهذا هو اسم بطل الرواية)، والاسم المسلم له معنى يريد الكاتب أن يمرر رسالة من خلاله، وعند وصوله إلى المطار المقصود ظل وصديقه الذي جاء معه (حكيم) اسم مسلم آخر، دون أن يأتي أحد لأخذهما، كما قيل له من المكتب في مومباي. بعد فترة انتظار تطول، يأتي شخص (الذي تنبعث منه رائحة العفن) ويأخذهما في سيارة (نصف نقل) إلى الصحراء. في البداية يسر نجيب، حيث يقول: «أخيرا حصلت على (أرباب)، وأصبحت خليجيا»! شاحنة الأرباب تقشر طلاؤها، وكانت أبوابها مربوطة بالحبال. وصلنا إلى منطقة في الصحراء والليل دامس، وأشار «أرباب» إلى رفيقي حكيم للنزول، فتبعته أنا، هاج «أرباب» وغضب، وبكلمات لم أفهمها أشار للعودة إلى الشاحنة، ولما لم أفهم ما يريد على وجه الدقة (خلع حزامه وأداره في السماء دورانا. أفزعني الفحيح الذي انطلق منه.. ووجدتني أرجع إلى الشاحنة ذات الضجيج غصبا عني). ينتهي نجيب إلى حظيرة لتربية الأغنام وسط الصحراء المقفرة بها (شبح رهيب ذو شعر متقشف أسود مما تعرض له جلده من شمس وأظافر طويلة معقوفة سوداء، كأنه خارج من مغارة، له لحية طويلة حتى أسفل بطنه وقميص عربي ليس أوسخ منه، أضف إلى ذلك رائحة نتنة تطرد كل مقترب)! ذاك الشبح هو العامل الأسبق الذي لم يمس الماء جسمه لسنوات طوال. اكتشف نجيب في صباح اليوم التالي، أن هناك مئات الأغنام والخراف وعشرات من الجمال يتوجب عليه أن يرعاها ويحلبها، دون خبرة سابقة، كان غذاء نجيب في الصباح والمساء فقط «خبزا وماءً» (كبز)، كما يسميه، حتى لما أراد أن يستخدم قليلا من الماء ليتطهر، نزلت عليه سياط «أرباب» حتى مزّقت ظهر جلده (هنا الماء أهم من حياة الإنسان) يختفي الشبح بعد أيام، ويعتقد نجيب أنه هرب، إلا أنه يكتشف بعد فترة جثة ليست إلا جثة الشبح الهارب، في إشارة مبطنة إلى أن صاحب العمل قد عثر عليه ومن ثم قتله! بعد عناء في هذا العمل الشاق شبه العبودي تحت أشعة الشمس المحرقة في الصيف وزمهرير برد الشتاء الصحراوي يمر على نجيب عدد من السنوات، ويستعير الكاتب هنا منظومة أفكار جورج أورويل في «مزرعة الحيوانات»، حيث يكلم نجيب الماعز كأصدقاء أعزاء له، لأنه لا يجد من يتكلم معه. يقرر نجيب بعد طول معاناة الهرب من هذه العبودية إلى الصحراء، مع صديقه حكيم وعامل صومالي يعمل في مستعمرة أغنام قريبة. يتيه الثلاثة في الصحراء ويموت حكيم من العطش، ويواجه الاثنان الموت أكثر من مرة، إلا أنهما في النهاية ينجوان. ويقرر نجيب أن يسلم نفسه للشرطة من أجل احتمال ترحيله إلى بلده، إلا أن صاحب العمل يتعرف عليه في السجن، ولكن لا يسترده كما يفعل الآخرون عادة لمن هرب من خدمتهم لأننا نكتشف أنه من البداية أخذه من المطار، وهو ليس «كفيله» الرسمي، كان يريد عمالا، ولا أفضل من أولئك الذين أوصلهم حظهم العاثر إلى المطار، دون أن يأتيهم مستخدموهم في الوقت المناسب! تطرح الرواية أمام القارئ تلك الحياة القاسية للعمال القادمين من الخارج إلى دول الخليج، صحيح أن السرد لم يكن موفقا، فليس للشخص الخليجي العادي حزام ليضرب به الآخرين (لو قال عقال لصدقناه أكثر)، كما أن الصحيح أن من يواجه مثل تلك المعاملة القاسية أو شبيه لها، هم القلة، إلا أن الصحيح أيضا أن مثل أحداث هذه الرواية هي التي تبقى في الذهن وتخلق صورة سلبية للغاية للمواطن الخليجي، وهذه طبيعة الأشياء، فقصص النجاح وإن كثرت يتم نسيانها، أما القصص السلبية المعتمة في فظاظتها فهي التي تلهب خيال المتلقي، بل إن بعض السياسيين في الهند وفي غيرها من الدول المصدرة للعمال، خاصة الهامشية، بدأوا في رفع الصوت جراء ما يعانيه البعض من مواطنيهم من تلك الممارسات، وإن تكن قليلة، إلا أنها موجودة. إذا علمنا أن الرواية تعد كي تصبح فيلما سينمائيا، نعرف كم من الضرر تخلفه في مخيلة المشاهد، وهي التأكيد أن هناك «عبودية» من نوع ما تجري في المنطقة. يعمل اليوم في الخليج ملايين من العاملين، كثير منهم مما يسمى العمالة الهامشية أو غير المهنية، ويعاني بعضهم مما تسميه الصحافة المحلية «تجار الإقامات»، وهي تجارة مع الأسف مزدهرة. وعند صدور رواية مثل «أيام الماعز» بكل ذلك التوصيف العميق وغير الإنساني لمعاملة البشر، يرى البعض أن ذلك هو التصرف والسلوك الأكثر انتشارا، وهو سلوك يؤلب كثيرين على كيل التهم لمجتمعات الخليج. القوانين في الخليج بشكل عام قاصرة عن معالجة الموضوع الإنساني والاقتصادي الناتج من جراء الحاجة إلى العمالة في شتى صورها، كما أن تطبيق تلك القوانين يحتاج إلى شيء من الحزم القاطع. من المؤسف أن الدراسات المتوفرة حول العمال ومصادرها قليلة، بل لقد اكتشف في بعض دول الخليج وبالصدفة، أن بعض وكالات التشغيل تصدر عمالة هي في جانب منها مافيا من نوع ما في بلدها، ومدربة على الإجرام، عدا الاستخدام غير المنظم في القطاع الأهلي الذي يوقع المستخدم والعامل في متاهات غير إنسانية. إذا كان ثمة إيجابية لهذه الرواية (أيام الماعز) فإنها تقرع الجرس عاليا لإيقاظ البعض بأن هذا الموضوع (استجلاب العمالة وتشغيلها خاصة الهامشية) يجب ألا يصرف النظر عن ممارساته السلبية دون تقنين دقيق، لما له من نتائج سلبية على المجتمع، بل ذهبت بعض الحكومات التي تصدر مجتمعاتها عمالا إلى فرض شروط تعجيزية، كما حدث مؤخرا من قبل الحكومة الهندية. حصلت الرواية على عدد من الترشيحات للجوائز الأدبية، كما نالت بالفعل بعض الجوائز، وسوف تبقى معنا عنوانا لما كان يتوجب علينا علاج أسبابه منذ زمن ولكننا لم نفعل. آخر الكلام: تقول لنا الإحصاءات، إن هناك ستة عشر مليون عامل أجنبي في الخليج!!