اعتاد رضوان السيد، المفكر والمبدع اللبناني، منذ تخرج في جامعة الأزهر وحصل على الدكتوراه من ألمانيا، على الخوض في غير التقليدي من المسائل الفكرية، وهو في كتابه «أزمة التغيير: الدين والدولة والإسلام السياسي»، الصادر عن «هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة» يخوض معركة فكرية بضراوة غير معهودة في كتاباته، فهو كتاب سجالي ونضالي. سجالي لأنه يعنى بمساجلة الإسلام السياسي، في أصوله ودوافعه وتياراته وتحولاته للمفاهيم الدينية، خلال ستة عقود. وهو كتاب نضالي لأن همه طرح بدائل لإخراج الدرس الديني والممارسة الدينية من الأفق المسدود للعلائق بين الدين والجماعة، وبين الدولة والدين وبين الإسلام والعالم. يرى رضوان السيد أن الاسلام الصحوي أو الأصولي أو الإحيائي - الأخير يفضله المؤلف- في عشرينات القرن العشرين بوصفه احتجاجاً على التغريب، وعلى الاستعمار، وعلى التقليد الإسلامي المتمثل في المؤسسات الدينية العريقة كالأزهر، وأخيراً على الدولة الوطنية. درس المؤلف وحلل فكر العديد من الحركات الإسلامية وكشف اصطدامها بالدولة الوطنية العربية في بدايات المرحلة العسكرية. فقد كشف صدام العام 1954 بين ثورة تموز (يوليو) و «الإخوان» عن أمرين مهمين. الأمر الأول: وجود تنظيم حديدي أو حزبي صارم وعقائدي مثل الأحزاب الشيوعية الصاعدة وقتها في آسيا وأفريقيا. الأمر الثاني: أن التنظيم ومنذ بداياته في الثلاثينات من القرن العشرين استطاع تركيز الشرعية بالمعنى الإسلامي لذلك، باعتبارها انحسرت في العالم الإسلامي، وتوشك أن تنحسر عن المجتمعات. درس السيد أصول هذه الفكرة، فقد كان حسن البنا شديد الوعي بالمسألة منذ البداية عندما سمي تنظيمه «جماعة» وهو مصطلح عريق، يعني الإجماع، ويعني السلطة الدينية والسياسية الشائعة في المجتمعات، والتي تهبها إسلامها المكتمل، ومشروعيتها الواثقة من شتى النواحي، ويبرر السيد ذلك بأنه منذ مطلع القرن الثاني الهجري ظهرت مجموعات صغيرة من العلماء تطلق على نفسها اسم أهل السنة أو أهل الحديث. ثم أضاف بعضهم في النصف الثاني من القرن الثاني إلى اللقب مفردة (الجماعة) فصاروا معروفين باسم (أهل السنة والجماعة). تطور هذا المصطلح من مواجهة المعتزلة والشيعة في الدين، إلى جماعة سياسية لا تعتنق نظرية الإمامة، وترى أن السلطة شائعة في المجتمعات التي تهب إمارة المؤمنين شرعيتها، ولذا فأساس اختيار الإمامة وشرعيتها عندهم هو الاختيار من الناس وبخلاف أكثر جماعات الهوية التي ظهرت في عشرينات القرن الماضي، فإن حسن البنا سمى جمعيته أو تنظيمه (جماعة) – وهذا يعني عنده أن «الشرعية» تركزت فيه. الجانب النضالي والنهضوي في أطروحات هذا الكتاب يتمثل في اقتراح أفكار للخروج من مأزق الإسلام السياسي، وآفاقه المسدودة، هذه الأفكار التحليلية التي طرحها السيد يرى لها شرطاً واحداً هو الإصلاح السياسي، وإقامة الحكم الصالح بعد انقضاء الأنظمة العسكرية الوراثية بقيام الثورات. وكان السيد يعتقد أن الإصلاح الديني يمكن أن يتقدم على الإصلاح السياسي، وإن كان العكس ممكناً. بيد أن بروز الإسلام السياسي والجهادي في موجة ثانية بعد اندلاع حركات التغيير العربية أوصل المؤلف إلى قناعة مفادها أنه لا بد من إنقاذ الدولة الوطنية العربية بالإصلاح السياسي، والحكم الصالح، قبل أو في موازاة القيام بإصلاح ديني جذري، بنقد التحويلات الشاسعة التي أحدثها الإسلاميون في مفهوم الدين والتدين وفي علاقة الدين بالدولة، وفي تجديد وفتح التقليد الديني، بحيث تتصدى المؤسسات الدينية لمهماتها الباقية والضرورية في التعليم والفتوى وفقه العبادات وفقه العيش، وإعادة المشهد الديني إلى سويته. هذا الكتاب هو استكمال لما سبق أن أصدره السيد تحت عنوان «الصراع على الإسلام»، وطرح فيه أن هناك صراعاً على ديننا، أو صراعاً للقبض على قلب الدين وروحه من جانب أهل العنف باسم الإسلام، والأنظمة العسكرية العبودية، والنظام العالمي وفي طليعته الولايات المتحدة. والكتابان يذهبان إلى أننا بصدد حروب في قلب الإسلام ذاته، ليس بين المعتدلين والمتطرفين، كما زعم الأميركيون، بل بين الذين يريدون أن يبقى دينهم على سويته حاضناً للسكينة الاجتماعية والثقافية والعيش مع العالم، وبين أولئك الذين يعملون على تقسيم المجتمعات والدول، وتدمير أعراف العيش ومصارعة العالم باسم الإسلام.