×
محافظة المنطقة الشرقية

الأخضر يصل ملبورن ويستأنف تدريباته استعداداً لكوريا الشمالية

صورة الخبر

يمكن القول إن حضور الدين أو غيابه يرتبط بقدرته على صياغة روحانية مؤمنة، تزكي الشعور النبيل بالحضور الإلهي القدسي في عالمنا، الأمر الذي ينمي العوالم الداخلية للإنسان، ويربطه رأسيا بعالم الغيب، على نحو يذكره بمآله ومصيره، ويستخرج منه أنبل ما فيه، إذ يبثه ضميراً خلقياً مريداً للخير هياباً للشر، مدفوعاً إلى الحق، رافضاً للظلم. كما يربطه أفقياً بعالم الشاهد، والبشر الآخرين، ربطاً يقوم على المحبة والتراحم، ويناقض القسوة والعنف. وفي المقابل يمكن الإدعاء بأن الدين، وفق هذا الفهم، لا يكاد يوجد إلا في صوامع الرهبان، وحلقات المتصوفة، وبؤر النساك والزهاد، الذين يعيشون على هوامش المجتمعات، ولا يجسدون متن التاريخ، إذ باتت الروحانية الدينية تواجه ظاهرتين متناقضتين الأولى يعتبرها البعض انعكاساً لـ (صحوة الدين)، والثانية يراها البعض دليلاً على (نهاية الدين)، فيما تؤدي كلتاهما جوهرياً إلى نهاية الروحانية التقليدية. الظاهرة الأولى تتمثل في النزعة الأصولية التي تتفجر في كل مكان، وقد بلغت الآن ذروتها، في صورة سلفية جهادية عنيفة، تشي ظاهرياً بكثافة حضور الدين، ومدى توغله في المجال العام، ولكنها تشي بغيابه جوهرياً، على رغم الهيمنة الطقوسية الشديدة عليه، ممثلة في ذلك المكون السلوكي، القائم على النشاط الجماعي للمتدينين، باعتبارهم جماعة إنسانية تريد توكيد حضورها، وترغب في الشعور بتقدير الآخرين لها واعترافهم بها. أو حتى القائم حتى على نشاط فردي، ولكنه نشاط لا يهدف إلى تواصل روحي باطني مع الحقيقة العليا، على محور رأسي، ولكن إلى كسب ثقة الجماعة ونيل رضاها كي تعترف له بحظوة دينية أو مكانة اجتماعية مترتبة عليها، أو تمنحه من السمعة الجيدة ما يجعل حياته داخل الجماعة أكثر سلاسة وسهولة، إنها تواصل أفقي مع الجماعة الإنسانية المحيطة، تجعلها أقرب إلى ظاهرة اجتماعية منها إلى ظاهرة دينية، وهذا ما يبرر لدينا القول بغياب الدين أو الروحانية المؤمنة من جانب، رغم انفجار الدين في كل مكان على نحو يبرر المقولات النقيضة التي تتحدث عن (عودة الدين) منذ ثلاثة عقود على الأقل، فما يتفجر في كل مكان هو الطقوسية الدينية، ومتواليتها من تطرف وعنف سياسي. في هذا سياق هذه النزعة تختلط مقولات الجهاد بجرائم الإرهاب، وتجري عمليات القتل باسم الله وعلى مذبح الإيمان، بفعل تدين (زائف)، حيث يتعرف (مدعي التدين) على نفسه كنقيض ضروري للآخر، الديني أو الطائفي أو المذهبي، في سياق نفيه والتنكر له إلى درجة استباحة وجوده، وربما الاستمتاع بالرقص على أشلائه، على منوال ما يجري حولنا في جل المنطقة العربية وعلى حوافها الإسلامية الملتهبة. فلأن التدين هنا صار فعلاً لتأكيد الذات وتمييزها في مواجهة الآخرين، وليس حواراً مع الله أو مناجاة له، فقد اتخذ شكلاً حاداً وعنيفاً في مواجهة هؤلاء الآخرين. وللأسف كان هذا هو الاتجاه العام الذي سارت فيه حركات التغيير العربية التي بشرت بالربيع الزاهر قبل أن تنقلب إلى خريف عاصف. ورغم أنها اندلعت أساساً بفعل جيل شاب وعصري أحسن استخدام أدوات التواصل الاجتماعي المنتمية إلى ثقافة ما بعد الحداثة، والتي أتاحها العالم ما بعد الصناعي، فإنها عادت لتفجر في الشخصية العربية أعنف النزعات البدائية، والسلوكيات الهمجية، ولتستقطب العديد من أبناء هذا الجيل نفسه، ربما بتأثير شعورهم بالتهميش، أو اغترابهم عن الروح الحديثة، رغم انضوائهم الظاهري تحت لافتاتها واستخدامهم العملي لبعض أدواتها. يتصور أولئك القتلة، من الدواعش ومن يشبههم أو يواليهم أو يبررهم، أنهم ينتصرون للإسلام وهم يدسون أنفه في تراب العنف والدم، يتصورون إعلاء كلمته وهم يشوهون صورته في العالم أجمع. يجهلون أن الدين سلام وأن الله محبة. أن الإيمان إخلاص، والعقيدة ضمير، والخلاص النهائي مكافأة إلهية، يمنحها الله لنا جزاء وفاقاً لإيماننا الداخلي، وعملنا النقي، وسعينا الدؤوب إليه، وإن تعثر السعي، وتشوه العمل، وتنوع الإيمان، فالله خالق لا قاتل، رحيم رغم كونه قادراً. أما الظاهرة الثانية فهي صيرورة العلمنة الجارية، وهنا يجب أن نفرق بين مستويين أساسيين لها: الأول هو العلمنة السياسية كمذهب أو منهج فكري يقوم على أساس مجموعة من المبادئ النظرية/ الإيديولوجية التي انبثقت عن حركة الإصلاح الديني البروتستانتي بالأساس، وتغذت على المثل السياسية للتنوير، وسادت المجتمعات الصناعية الحديثة عبر القرون الثلاث الأخيرة، وهي ظاهرة تنمو في قلب النظم السياسية بالأساس وتفرض نفسها عليها، ضمن عمليات البحث عن أفضل آليات إدارة الدولة كمجال محايد لممارسة السلطة وتبادلها. أما الثاني فهو العلمانية الوجودية، تلك التي استندت إلى بعض فلسفات التنوير الجذرية، وتنامت في مجتمعات المابعد (ما بعد الصناعة، ما بعد الحداثة... الخ)، حيث تطورت تلقائيا بتوالي الثورات العلمية وارتقاء الأدوات التكنولوجية، والنظم الإدارية التي تنتهجها تلك المجتمعات في إدارة العلاقة بين أطرافها مكوناتها. تسعى العلمانية السياسية إلى دفع الدين إلى حيز الوجود الفردي بعيداً من المجال العام، من دون رغبة في اقتلاعه من المجتمع أو السعي إلى محاربته طالما لم يسع إلى تحدي النظام السياسي، بينما تسعى العلمانية الوجودية، من دون إعلان عن ذلك، وأحياناً من دون وعي به، إلى تصفية الدين نفسه وتفكيكه ونفيه سواء من الوجدان الفردي أو الوجود الاجتماعي ودفعه إلى أكثر المواقع هامشية فلا تنحيه فقط عن التدخل في الاقتصاد والسياسة، بل تحرمه أيضاً من دوره في صوغ نظم القيم السائدة، والتقاليد الاجتماعية التي طالما عبرت عن نفسها في قوانين الزواج والطلاق، وأنماط العيش المختلفة. وفيما سعت العلمانية السياسية إلى نفي التسلط باسم الدين من خلال تحديها لمقولة الحق الإلهي المقدس في حكم الشعوب، تلك التي مثلت جوهراً لعقد استبدادي طويل المدى بين الملوك، الإقطاعيين في الأغلب، المتحالفين مع الكنيسة الكاثوليكية في الأعم من جهة، وبين رعاياهم من البؤساء والفقراء والمحرومين من جهة أخرى، فقد سعت العلمانية الوجودية إلى نفي الدين نفسه من الوجدان، بحجة أنه ليس نتاج وحي إلهي بل نتاج خوف الإنسان من الطبيعة، أو جهلة بقوانين العالم، أو اغترابه في الفضاء الكوني، ومن ثم فما أن يتجاوز الإنسان جهله عبر العلم التجريبي الحديث، وخوفه عبر التنظيم المدني المعاصر، واغترابه عبر التقدم التكنولوجي الهائل، فسيتجاوز بالضرورة حاجته إلى الدين، الذي لا يعطيه سوى وهم زائف على حد قول فرويد، ولا يمثل له سوى أفيون مخدر على نحو ما ذهب ماركس. وبينما صاغت العلمانية السياسية التصورات الباكرة عن مستقبل الدين في قلب المجتمعات الحديثة، عندما تحدثت عن عقلنته، وعن تجاوز مركزيته في التاريخ الإنساني لحساب العلم والعقل والحرية، فإن العلمانية الوجودية هي التي صاغت التصورات العدمية عن مستقبل الدين، حينما تحدثت عن نهايته، أي إمكانية تجاوز التاريخ للدين نفسه، وليس فقط لمركزيته في مجتمعات ما بعد الحداثة. المشكلة هنا أن علمنة الدين سرعان ما تفضي إلى علمنة الإنسان نفسه، بمعنى تفكيك ضميره الحي (الخفي، الكامن في روحه) والذي يميزه عن سائر الكائنات، أمام سطوة حضوره المادي (الظاهري، المتمدد في جسده)، الأمر الذي ينفي كل المعاني المتسامية عن الإنسان، لصالح قيم استهلاكية، ونزعة تجارية بحتة، تهدر كل القيـم الأخلاقيـة والوطنية والدينية لديه، إذ تضع لكل قيمة ثمن، فيصير انتماؤه لوطن سلعة مـدفـوعـة الثمن وإلا فهي الخيانة، وتدينه سلعة مدفوعة الثمن وإلا فهو النفاق. وذلك قبل أن تنتهك حضوره المادي نفسه، حيث يصير الجسد الإنساني أمام سطوة الربح وغرض المنفعة، مجرد سلعة، كيان مادي مسطح ممتد عرضياً، تتبدى كل جوانبه واضحة مثلما تتبدى السلع المعروضة في معرض تجاري كبير، حيث تنمو من ناحية قيمة الصحة والجمال وتكتسب محورية في تقييم الإنسان، إلى درجة تدفعه إلى استهلاك معظم دخله حفاظاً عليهما، كما تهون من ناحية أخرى قيمة بعض الأجزاء الجسدية لدى آخرين لا يرون مانعاً في التنازل عنها مقابل قدر من المال، أو لدى وسطاء لا يرون مانعاً في الإتجار بها لصالح هؤلاء على حساب أولئك. وهنا نصبح أمام حقيقة جوهرها موت الإنسان ككيان روحي متعالٍ، بمشاعره وأفكاره، بمعتقداته وأخلاقياته، حيث ينتفي البعد الرأسي الجواني العميق فيه، وتتدهور قدرته على التسامي، وهذا ما يكفي لموت الروحانية بفعل الانسحاب الناعم للدين أحياناً، وانفجاره العنيف أحياناً أخرى.