لعل ازدهار الحقبة الرمادية في التقويم الشعري السريالي المتضاد مع طبيعة الشعر العربي المعاصر ومع المرحلة التي نعيشها؛ قد شجع شعراء اللامعنى -هؤلاء الذين استطابوا القفز في فراغ الأودية التي يهيمون بها- على سحب البساط من الشعراء الملتزمين بهموم أمتهم وأوطانهم الجريحة. بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فتسلقوا جبالا من الكتابة الشعرية الملتزمة بالاتجاهات الوطنية والقومية والإنسانية ليرفعوا عند وصولهم إلى قممها راياتهم الوهمية، ويدعوا التربع على شرفة الشعر العربي الحديث، ليطلوا على جمهور لا يجدونه إلا في تهيؤات وتخيلات فائضة بالغرابة والتغريب اللامُجدي. الصفوف الأولى لنعترف بأن شعراء اللامعنى قد زاحموا الصفوف بصرعاتهم الحداثية البراقة، وتمكنوا في غفلة من عين الشعر العربي المعاصر من الوصول إلى الخطوط الأمامية للحركة الشعرية والجلوس على المقاعد الأمامية في أكثر من أمسية أو مهرجان شعري، وجدناهم على منصة الشعر يهذون ويطلسمون ببهلوانية متعالية تكاد تنطلي على مشاعر الجمهور، ولكنها لا تنطلي على عقول المتلقين وأذواقهم. " الشعراء المخضرمون - روادا كانوا أو تابعين- هم شهود عصرهم وشهداؤه، وما زالوا يتولون بشعرهم حراسة قضايا الإنسان العربي بكل ما فيها من هموم وأحلام وطموحات مشروعة " وفي هذه الحالة، لا ينبغي لشعراء المعنى المؤمنين بوظيفة الشعر وأهمية توظيفه ليأخذ دوره في الذود عن شرف الأمة وكرامتها وحريتها، لا ينبغي لهم أن يسمحوا للتشاؤم من هذا الوضع المغلوط أنْ يأخذهم إلى بعيد، لا سيما أن الموجة السريالية المغلقة على نفسها قد بدأت تنحسر شيئا فشيئا، إذ بدأ شعراء اللامعنى يشعرون بخيبة أمل في محاولات الاستحواذ على جمهور الشعر والانفراد به، حيث باتت قصائدهم الموزونة والنثرية أشبه بألعاب سحرية لا تفيد أو تقنع أحدا. وفي هذا الصدد، نطمئنُ شعراء اللامعنى المغامرين بأن الشعراء المخضرمين -روادا كانوا أو تابعين- الذين ظلوا شهود عصرهم وشهداءه،ما زالوا يتولون بشعرهم حراسة قضايا الإنسان العربي بكل ما فيها من هموم وأحلام وطموحات مشروعة. فشعراء الأمة المرابطون على جبهات المواجهة بالقصيدة الملتزمة لم يتراجعوا أو يتوقفوا عن أداء الرسالة على الرغم من تراكم صرعات التجديد المبهمة المعززة برياح تعرية وإقصاء الشعر الجاد والمُجدي، حيث ظل الشعر الفاعل والملتزم سيد الموقف، فما زالت قصائد شعرائها الذائدين عن شرف الأمة ومستقبلها محفورة في الذاكرة والوجدان، إذ ما زالوا الفرسان في ساحة المعنى، ينتصرون بإبداعاتهم لوظيفة الشعر العربي، ويعملون بإتقان على تعزيز صموده أمام تحديات العصر وترديات الواقع المؤلم. ويهمنا أن نُطمئن غُواة بدعة الإبهام الشعري، والهلوسة الشعرية المغرقة في نرجسية التعبير الذاتي، بأن رافعة شعر المواجهة والتصدي للواقع بكل إرهاصاته وتحدياته ما زالت على أول الدرب وفي الطليعة، ولن تنخفض لها راية، مهما اشتدت رياح الخروج على القصيدة العربية، كلاسيكية كانت أم حديثة، ليمر بأحلام يقظة شعراء اللامعنى وبطقوسهم الغريبة وتهويماتهم وتداعياتهم المريبة التي تنم عن عجز في التعبير وقصور في التصوير، والتي تصب في احتمالية السقوط المُريع في إفلاس المضامين بتداعي المبنى وفراغ المعنى. تأثر الشعر هذا الخروج اللامسؤول عن أصول الكتابة الشعرية المتعارف عليها قديما وحديثا سيؤثر ولا شك على الحالة الشعرية الراهنة، وربما يقود القصيدة العربية الحديثة إلى عزلة وتقوقع وانفصال، لتصبح هي في واد وجمهور الشعر الذي اعتادت عليه في وادٍ آخر. ولكنها حالة مؤقتة لن يكون لها ذلك التأثير السلبي على مستقبل القصيدة العربية، حتى لو تم تتويج قصيدة اللامعنى -نثرية كانت أو موزونة- على منصة الشعر العربي الحديث إلى وقت ما، وأصبح شعراء اللامعنى بقصائدهم المتفرنجة أو المتبرجة بالمفردات عصية الدلالات يتباهون بالنملة التي باضت على رأس الدبوس، والضحكات المندلقة من طنجرة الضغط، وبقبح الوردة الحالمة بالقار الأسود، وبالجرة التي سقطت على الإسفلت فانكسر الإسفلت وسلمت الجرة، إلى آخر هذه الصرعات التعبيرية التي لها أول في قاموس هؤلاء وليس لها آخر. " القصيدة العربية المعاصرة والملتزمة بوظيفة الشعر ستظل في مقدمة الحركة بدءا بديوان الحماسة وأشعار المتنبي وأبي فراس الحمداني، ووصولا إلى قصائد السياب والبياتي ونزار قباني ومحمود درويش " حتى لو تم ذلك وحصل بالفعل، ولمسناه في بعض الأمسيات الشعرية والندوات النقدية، فإن القصيدة العربية المعاصرة والملتزمة بوظيفة الشعر ستظل في مقدمة الحركة الشعرية، رائدة لها، وناطقة إبداعية باسمها، وممثلة لحضورها وديناميكيتها على خارطتنا الحضارية العريقة، بدءا بديوان الحماسة وأشعار المتنبي وأبي فراس الحمداني، ووصولا إلى قصائد السياب والبياتي ونزار قباني ومحمود درويش، وانتهاء بأحدث القصائد التي كتبها الشعراء العرب المُحدَثون. لا نملك أن نقول لشعراء اللامعنى المُمعنين في التغريب والإيهام وتهجين اللغة وتفريغها من دلالاتها بشعوذات لفظية قد تنطلي على أحد من الناس؛ لا نملك أن نقول لهم شيئا فيه نُصح أو تحذير ما داموا يغلقون أسماعهم حين يقرأون قصائدهم دون أن ينتظروا رأي أحدٍ من الجمهور، بينما جمهور الشعر تستبد به رغبة رثاء الحداثة الشعرية التي وصلت على أيدي هؤلاء إلى حد الاستهانة بالشعر الرصين والأصيل والمتوهج إبداعا وحيوية، بعيدا عن تلك السريالية المغلقة العابثة بهيبة الشعر العربي ومكانته وجدواه. أملا منا في أن يسمع شعراء اللامعنى ما نقول، أو ينظروا إليه بأطراف العيون، ننصحهم بألا يبالغوا في تلميع شطحاتهم ونثرياتهم الشعرية الباهتة ليوهمونا بأن معادنهم الشعرية ثمينة ونادرة القيمة، بينما هي فارغة المحتوى، عديمة المضمون، فليس كل ما يلمع ذهبا حتى ولو كان شديد اللمعان، سرابيّ البُنيان. _______________ * كاتب وشاعر فلسطيني.