×
محافظة المدينة المنورة

المدينة: انقلاب مركبة يصرع ثلاثة آسيويين ويصيب ستة

صورة الخبر

كان الدكتور أنيس فريحة أهم مؤرخ لحياة القرية اللبنانية في بدايات القرن الماضي. يروي إلى ابنه قائلا: «أبوك لم يرَ سيارة في حياته قبل أن يغادر القرية. كنا سعيدين أن نذهب إلى المدرسة مشيا بحذاء لا ينفذ الشوك في نعله الرقيق المهترئ صيفا، ولا ينفذ الماء البارد إليه شتاء. فإذا مس الماء الحذاء، ابتل. فكان يوم الثلج ويوم الزمهرير يوم عطلة». كان لبنان أمس في وضع يسميه العسكريون «حالة الحصار». العاصفة تطلق الريح، وتُهطل الأمطار، وترمي الثلوج، وترتجف بالبروق، وترتج بالرعود. لا شك أنه كان يوم عطلة في المدارس كما في زمن أنيس فريحة، سواء كان التلاميذ في نعال يخترقها الماء، أم لا. فقد غطت الثلوج الأمكنة، وتجاوزت الجبال إلى الهضاب، فسدت الطرقات والمنافذ، وحاصرت الناس في بيوتها كاليأس الذي يُطبق علينا. لم يعد الثلج جميلا في لبنان. ولا عاد مناسبة لأن يأخذ صبيان المدارس فرصة إضافية غير مقررة في منهاج مليء بأكبر عدد من العطل الرسمية في العالم. فإن لكل طائفة أعيادها - والمجموع 19 طائفة وما تفرّع. وقد كانت قلوبنا جميعا مع جنودنا المخطوفين، ومع عسكرنا الموزعين في الجرود العالية، حيث المناخ مريع بلا عواصف، والطقس قاسٍ بلا متطرفين وقتال وخطف وموت. لي ركن على الشرفة الزجاجية أمضي فيه كل الوقت. كتابة وقراءة ووجبات وقيلولة. ومنه، طوال النهار وبعض الليل، كنت أرى رؤوس الشجر تموج، والمطر يصارع الريح، والغيوم تخفي البحر الذي هو غالبا أزرق جميل وهادئ. ولأول مرة أدركت ماذا تعني الثلوج للكبار في القرى. كانت في صغرنا عطلة يغيب فيها الأستاذ القادم من قرية أخرى، مشيا بالطبع. وكانت تعني مطاردة العصافير الهاربة إلى الدفء في أي ملجأ. لكني أفهم اليوم أن الكبار كانوا يخافون من حالة الحصار. فقد تنفد المؤن، وينفد الحطب، ولا يعود الوصول إلى الطبيب ممكنا. حتى الثلوج فقدت جمالها، وصرنا نخافها. أصبحنا نتطير من أي شيء مثل ابن الرومي الذي حلت به النوازل. كانت القرية رمز الطمأنينة وراحة البال: «لا فلاح مكفي، سلطان يخفي». يعدد أنيس فريحة «الزودات» التي يحملها الصغار إلى المدرسة: عروس لبنة (رغيف)، عروس ربّ (مربى) البندورة مع الزيت. عروس دبس عنب! هذه زوادة «الأغنياء». أما الآخرون فكانت «عروس حاف». رغيف ليس عليه أي شيء. هل أدركت لماذا كان أهل القرى يسمّون الرغيف «عروسا»؟ أتأمل الرياح والأمطار والغيوم وأفكر في النازحين الذين لا بيوت لهم، ولا حتى «عروس حاف»، وأطرح على نفسي السؤال الذي طرحته منذ أن يفعت، متى لا يعود لنا إلا العواصف الطبيعية؟ ومتى تقوم العواصف فلا نرى مشردين، ونازحين، وفقراء، وخائفين، وبشرا يخافون رعد البشر أكثر مما يخافون رعد الفضاء؟ وتزمجر العاصفة في الخارج. فأعود إلى أنيس فريحة لأخرج من «حالة الحصار».