للمكان في الشعر ألقه وسحره وترجيعاته التي لا تنضب، ذلك أنه يمد الشعراء بطاقة الإيحاء التي تحفزهم على الكتابة، وبالشرر اللازم للاشتعال كلما آنسوا من أنفسهم ركونا إلى الصمت أو النضوب. صحيح أن اللغة في إيقاعاتها المختلفة هي، بخلاف الرسم أو النحت، متتاليات محكومة بعامل الزمن، ولكن المكان في مقصوراته المغلقة يحتوي على الزمن مكثفا، كما يقول باشلار. لذلك فقد حرص الشعراء الكبار على تخليد الأماكن التي شكلت ملاعب طفولاتهم وصباهم، كما لو أن خلودهم الشخصي جزء لا يتجزأ من خلود تلك الأماكن. وليس من المستغرب ــ تبعا لذلك ــ أن يضم البيت الأول من معلقة امرئ القيس أسماء لأماكن ثلاثة هي «سقط اللوى» و«الدخول» و«حومل»، متبوعة بأسماء أخرى ترسخ حضورها في الوجدان الجمعي، وشكل مع أماكن الشعراء الأخرى جزءا لا يتجزأ من جغرافيا الروح العربية، التي كاد يحولها الزمن إلى أسطورة حقيقية، أو جرح في الوجدان لا يعرف التخثر. هكذا لم يكتف الشعراء بإلحاق اللغات بأسمائهم، كأن يقال عن الإنكليزية لغة شكسبير، وعن الروسية لغة بوشكين، وعن الإسبانية لغة سرفانتس، وعن العربية لغة المتنبي، بل إنهم يلحقون بأسمائهم الأوطان والجهات والمدن والقرى والمفازات، والبيوت التي تتحول بعد موتهم إلى متاحف. فكيف لنا أن نتذكر جبل التوباد دون هذيانات قيس بن الملوح، أو نتذكر نيسابور بلا عمر الخيام، أو نتذكر حمص بلا ديك الجن، أو نتذكر حلب الشهباء بلا المتنبي، أو البروة بلا محمود درويش؟ أذكر في هذا السياق أن الشعراء المشاركين في أحد مهرجانات المربد في ثمانينيات القرن الفائت ألحوا على زيارة جيكور، قرية الشاعر العراقي الراحل بدر شاكر السياب. ليس فقط لأن أطياف قصائده وعذاباته كانت تظلل البصرة بأسرها، بل لأن جميع المشاركين كانوا يريدون التعرف إلى بيوت جيكور الطينية وإلى غابات النخيل التي استل منها السياب مطلع «أنشودة المطر». وحين أشار الدليل إلى شباك وفيقة. حبيبة الشاعر الأولى، أجهش البعض في بكاء مؤثر وهم يرون في الشباك الخشبي المتهرئ رمزا لكل الشبابيك المفتوحة على الحسرات والأيام المنصرمة. إن رغبتنا في التعرف إلى مساقط رؤوس الشعراء والفنانين ما هي إلا التعبير الرمزي عن رغبتنا في الوقوف على منابت الحيوات التي رفدتهم بأسباب الإبداع والإلهام، وفي معاينة ذلك التراب الشاغر الذي لا تزال تهوم فوقه أرواحهم المثخنة بنصال الكلمات. لا يمكن للكتابة بهذا المعنى أن تكون قفزا بهلوانيا في فراغ المكان والزمان، ولا يمكن للعالمية أن تتحقق في ظل تغييب الأوطان وتجهيل الهويات المحلية. وما تحويل بيوت المبدعين إلى متاحف وممتلكات عامة، كما هو حال الحدائق والشوارع والمقاهي التي اعتادوا على ارتيادها، سوى تتويج رمزي للعلاقة الراسخة بين الحبر والجلد، وبين اللغة ومسقط الرأس. لكن السؤال الممض الذي يلح على بال القراء هو: كم شاعرا أو مبدعا عربيا معاصرا يحرضنا على تذكر المكان الذي ترعرع فيه، أو زيارته لمرة واحدة على الأقل.