لفت الحدث الفلسطيني الأسبوع الماضي انتباه العالم، فقد تسرّع البعض وانتقد -وأنا واحد منهم- سوء التخطيط في الهجمة السياسية التي شنّها وفد دولة فلسطين في الأمم المتحدة بعد رفض مشروع القرار العربي الفلسطيني الخاص بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي من قبل أعضاء مجلس الأمن؛ بسبب الفشل في الحصول على 9 أصوات من أصوات المجلس بأعضائه الخمسة عشر الدائمين، وغير الدائمين، وهو ما حفظ ماء الوجه للولايات المتحدة لعدم اضطرارها استخدام الفيتو، فيما لو حاز مشروع القرار على الأصوات التسعة. وتساءل البعض أيضًا: لماذا لم يؤجل الفلسطينيون التقدم بمشروعهم مع بداية العام الجديد (2015) بعد الانضمام الرسمي للدول الخمس الجديدة إلى عضوية المجلس، والتي تؤيد معظمها مشروع القرار؟ لم تطل الإجابة كثيرًا عندما سارع الرئيس أبو مازن على الفور بالتوقيع على انضمام دولة فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية، فيما أعتبر خطوة ذكية لبداية هجمة سياسية مخطط لها بعناية، وبدا الأمر كما لو أن الفلسطينيين خططوا لفشل المشروع كي يصدروا قرارهم بالانضمام إلى الجنائية الدولية. وجاء إعلان الانضمام ردًّا على تنكر الأمم المتحدة لمبادئها؛ ليظهرها بمظهرها الحقيقي ليس باعتبارها المؤسسة الدولية الأولى المعنية بالسلام، وبحق الشعوب في تقرير مصيرها، وإنما كمؤسسة دولية تقف ضد الاحتلال تارة، وتؤيده تارة أخرى! كما أن الضغوط والإغراءات التي مارستها واشنطن على نيجيريا، ورواندا لعدم التصويت لصالح القرار أعاد إلى الذاكرة ما حدث عام 1947 عندما مارست واشنطن نفس الدور لتمرير قرار التقسيم الجائر. قرار الرئيس أبو مازن كان ضربة معلم، لاسيما وأن طلب الانضمام سيتيح لدولة فلسطين المطالبة بمحاكمة مجرمي حرب غزة الذين قتلوا الصيف الماضي أكثر من 400 طفل فلسطيني في تلك الحرب، كما سيتيح الطلب أيضًا ملاحقة إسرائيل على جرائمها الأخرى بأثر رجعي منذ العام 2002، العام الذي تأسست فيه المحكمة، بما في ذلك جريمة الاستيطان التي تصنفها الجنائية الدولية جريمة حرب. بالإمكان الاستدلال على أهمية هذه الخطوة الفلسطينية الهامة من خلال حالة الغضب الإسرائيلي، والاستياء الأمريكي التي أعقبت القرار الفلسطيني. ونقل وكالات الأنباء تصريحات مراقب دولة فلسطين في الأمم المتحدة رياض منصور وهو يرد على سؤال أحد الصحفيين خلال مؤتمره الصحفي: «من فضلك لا تقل قرار السلطة الفلسطينية.. قل قرار دولة فلسطين»، في إشارة إلى أن الرئيس عباس من الممكن في خطوة قادمة الإعلان عن إلغاء السلطة، بعد أن أصبحت فلسطين دولة (غير عضو) في الأمم المتحدة، كأحد الخيارات والبدائل التي طالما نوّه إليها. المفاجأة الثانية جاءت بعد يومين فقط من المفاجأة الأولى بالإعلان الفلسطيني عن التقدم إلى مجلس الأمن مجددًا لإنهاء الاحتلال، وهو ما أفقد واشنطن وتل أبيب توازنهما؛ لأنهما يدركان جيدًا أن فرص نجاح مشروع القرار هذه المرة أكبر، وهو ما سيدفع واشنطن إلى استخدام الفيتو، لكنه فيتو مختلف عن أكثر من 40 فيتو سبق، وأن استخدمته لصالح إسرائيل، والحيلولة دون إدانتها بسبب جرائمها ومذابحها ضد الفلسطينيين، واستمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية. فواشنطن هذه المرة تظهر أمام العالم باعتبارها دولة تؤيد الاحتلال، وتقف ضد إرادة المجتمع الدولي، وتشكل عائقًا أمام تطبيق إسرائيل لقرارات الأمم المتحدة، وبالتالي تشجيعها على مواصلة انتهاكاتها لتلك القرارات، ولكافة الاتفاقيات والمواثيق الدولية. أهمية أخرى للقرار الجديد، وهي أن الفيتو الأمريكي سيقابل هذه المرة بخيار فلسطيني جديد. كما أن فرض واشنطن عقوبات مالية بسبب الهجمة الفلسطينية السياسية في الأمم المتحدة لابد وأن يكون الطرف الفلسطيني أعد له (خيارًا) آخر ضمن الخيارات أو البدائل التي طالما لوّح بها الرئيس عباس. الفشل في جولة مجلس الأمن الأولى كان له فوائد أخرى كثيرة فلسطينيًّا، وعربيًّا، وإسلاميًّا من أبرزها تعرية موقف بعض الدول التي تقف ضد الحق الفلسطيني وقرارات الشرعية الدولية بلا استحياء، وفي مقدمتها بريطانيا -صاحبة وعد بلفور المشؤوم- ونيجيريا!