ما بين الجمر والبر ورائحة الحطب التي تفوح في جنبات المكان وتعلق في الملابس، تتدفق ذكريات جميلة لليالي الشتاء الطويلة. من بين تلك الساحة الداخلية التي علينا عبرها لغرف النوم، أو البقاء متلحفين في غرفة الشاي حيث الجمر الذي انتهينا قبل ساعات من تناول الحليب بالزنجبيل المفروض علينا غصبا وحكايات جدتي التي علمتني القص. لم تكن أمنا تسمح لنا بالنوم في تلك الغرفة فتجرجرنا لسرائرنا وتسبل الغطاء علينا ثم يعود بعد فترة أحد والدينا للاطمئنان على غطائنا، وسبحان الله تستمر هذه العادة مع الكثيرين منا حيث نفعل ذلك مع أبنائنا. كنت أكره المدرسة كرها لا حدود له، وأتمنى كلما بدأت السماء تصب مطرها، أن يغزر هذا المطر كثيرا وتسقط المدرسة، وأحيانا أصل لأمنية شريرة أن تموت معلمة الفصل التي كنت أراها والكثيرات مثلي شريرة جدا، فهي تضربنا ضربا مبرحا على ظهور أكفنا، ونحن دائما من رهبتها نخطئ. لكن لا المدرسة تتساقط ولا المعلمة تموت، والذي يحدث أن تغرق أرجلنا في مياه الأمطار ونحن نجرجر شنطنا للمدرسة، ويعود السيناريو اليومي، كما نعود محملين بكم من الدروس والواجبات المنزلية والتي في بعض الأحيان أنساها وبعضها أتناساها وهكذا. لصباحات الجمع في أيام الشتاء طعم آخر مختلف، فرغم أن اليوم جمعة لا مدارس، لكننا نقوم صباحا بنشاط جميل، وأنوفنا تشم رائحة الخبز، حيث أمنا تخبز الخبز إما في التنور أو على الصاج الذي ندعوه (مقرصة) وهو خبز لذيذ، بجانب النار يكون هناك قدر يحوي حليبا بالهيل والزنجيبل، تغطس أمي بعضا من الخبز فيه ومن ثم تفركه حارا بين يديها، وفيما بعد تصب عليه خلطة من بيض تحركها سريعا، فتظهر رائحة زكية، ما أن تنتهي من الخبز وعمل هذه الأكلة الشتوية الذيذة، نتحلق حول السفرة الخوصية حيث الشاي بالحليب والزنجبيل الذي يرفضه بعضنا ويحبه بعضنا الآخر، لكن أيدينا تتخاطف تلك الأكلة الذيذة المحلاة. عندما يأتي الشتاء تتقاطر الذكريات وليست كلها جميلة هناك أمراض كثيرة تأتي مع الشتاء هناك الزكام والكحة وما أكثرها، وهناك البرد القوي الذي يكاد يفتت أجسامنا الصغيرة. وهناك الدواء والحلتيت، والمر الذي تصر أمنا على أن تنقعه وتجعلنا نتغرغر به. وإن لم يفد فهناك إبرة الطبيب الوحيد غير الحكومي، الذي درس في سورية وأحضر معه زوجة بيضاء جدا، كانت النسوة يتفرجن عليها غالبا، ولدت له بنتان بيضاوتان، فازت إحداهما بلقب ملكة جمال الأطفال. ذلك أثار الكثير من الأمهات واعتبرن فوزها فقط لبياضها، أما بناتهن المملوحات فكانت اثنتان وصيفتين لها، فجن جنون أميهما، كيف يكن وصيفات وهن بنات الأصل والفصل. وانتهى الأمر بالترضية، وتغير المسمى لنائبات ملكة جمال الأطفال. ويمضي الشتاء ليأتي الربيع وتمر دورة الحياة ونكبر ونتذكر، ونتساءل في أحيان كثيرة ماذا سيذكر أبناؤنا، لكنهم يذكرون الكثير، يذكرون تلك المسلسلات الكرتونية والرحلات للخارج فيما كنا نرى الذهاب لمدينة أخرى شيئا نردده دائما. يتذكرون أيام افتح يا سمسم ويقصونها على أحفادنا. إنه الزمن ودورته والحياة وتغير إيقاعها! رحم الله أياما مضت.. وبارك فيما يأتي.