لست هنا بصدد ذكر مناقب فارس السياسة العربية سعود الفيصل؛ فالرجل رحمه الله غني عن ذلك بكل تأكيد، ومهما تبارت الأقلام وتنافس الصحفيون في تسطير المقالات عن إنجازات ونجاحات الفيصل فلن يوفوه حقه، فقد حفلت حياته بخبرات عميقة ومتنوعة توجتها فطنة طبيعية وحذاقة فطرية، مكنته من اعتلاء قمة الدبلوماسية السعودية لكل هذه الفترة الطويلة التي شهدت حكم أربعة ملوك متعاقبين، ويكفينا أن نستدل على ذلك بما قاله رئيس الاتحاد السوفيتي السابق جورباتشوف «لو كان لدي وزير خارجية في مثل حنكة وذكاء الفيصل لما تفكك الاتحاد السوفيتي». عندما ترجل الفارس النبيل عن جواده منذ عدة أشهر لظروف مرضية خارجة عن إرادته، وترك ساحة الدبلوماسية لم أشأ أن أتحدث عن رحيله وعن الفراغ الذي خلفه بعده، فما شعرت به هو أن الفيصل لا يزال موجودا بيننا، يعيش همومنا ويستشعر خطورة المواقف معنا، ورغم ظروف مرضه إلا أن وجوده بيننا كان يمثل لنا مصدرا للطمأنينة، لكنه هذه المرة ترجل عن دنيانا، تاركا خلفه حزنا في قلوب الكثير من أبناء الشعب السعودي وخاصة من أبناء جيله ومعاصريه، ممن عاصروا نجاحاته ومجهوداته المشرفة التي تكللت بالنجاح وأعادت رسم خارطة الوطن العربي من جديد مرة أخرى بعد فترات طويلة من النزاعات والصراعات. لو توقفنا في عجالة للحديث عن أهم المحطات في حياة الفيصل الثرية بالبطولات الدبلوماسية، فسنبدأ من بداية توليه حقيبة الخارجية خلفا لوالده الراحل الملك فيصل، وقد اشتدت مع بداية حقبته العواصف السياسية القوية والتي تمثلت وقتذاك في اشتعال فتيل الحرب الأهلية اللبنانية، والتي زادها اشتعالا اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982، فما كان من سعود الفيصل إلا أن تدخل بثقله السياسي ساعيا في إنهاء الحرب، وتكللت جهوده بالنجاح وتوقيع اتفاقية الطائف وعودة الهدوء لربوع لبنان الشقيقة. في هذه الآونة كانت الجبهة الشرقية للخليج العربي على حدود المملكة الشرقية تشتعل بسبب الحرب العراقية الإيرانية، وقد كان النظام الحاكم الإيراني وقتذاك يسعى لفرض نفوذه وسيطرته وتصدير ثورته على كامل المنطقة، وقد طبقت المملكة إحدى سياساتها الثابتة وأيدت العراق سياسيا وعسكريا، وسعت بجهد حثيث لإقناع المجتمع الدولي بمدى خطورة النظام الإيراني وعدوانيته وتسلطه، غير أنه بعد انتهاء الحرب، وبدلا من أن يشكر صدام المملكة على موقفها الداعم له، بادر باجتياح الكويت عام 1990 مهددا المملكة وبقية دول الخليج الأخرى، وهو ما استدعى وقفة دولية لاستصدار قرار من مجلس الأمن لتحرير الكويت بالقوة العسكرية، ولم يكن الموقف سهلا وقتذاك لتضارب مصالح بعض الدول الكبرى مع تحرير الكويت، وهو ما استدعى جهودا دبلوماسية في قمة الحذر والهدوء والحنكة، وهو ما نجح فيه الفيصل أخيرا وتم إقرار قرار تحرير الكويت بالقوة العسكرية رغم الجهود الحثيثة من بعض الدول لإجهاضه، وهو ما حدا بالرئيس العراقي الأسبق صدام حسين للقول بأن سعود الفيصل هو أدهى من قابلت في حياتي؛ فحين كنت أحارب إيران جعل العالم معي، وبعد أن دخلت الكويت قلب العالم ضدي. وبعد مرور أعوام قليلة تكاد تعد على أصابع اليدين فاجأتنا أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وقد حاولت بعض الأطراف الأفغانية وقتها الزج باسم المملكة فيها من خلال استغلال بعض الإرهابيين، ولكن بفضل الجهود الدبلوماسية للمملكة ومن خلال حنكة ومهارة دبلوماسييها المخضرمين استطاعت المملكة قلب الطاولة على رؤوس المتطاولين. من الصعوبة بمكان رسم صورة بانورامية شاملة لما قدمه الفيصل لبلاده، ولعل أقل ما يمكن أن نعبر من خلاله عن تقديرنا وامتناننا لجهود فارس أفنى حياته في خدمة المملكة ورفعة شأنها هو تخليد ذكراه، وفي هذا السياق أقترح أن تقوم الدولة أو حتى محبو الفيصل بتأسيس كلية للعلوم السياسية للدراسات العليا تحمل اسم الفقيد، يتم تخريج أجيال منها تنشر منهج الفيصل وأسلوبه في إدارة شؤون البلاد الخارجية، وتظل تذكر الأجيال التالية بإنجازات هذا الرجل العظيم الذي يعد بلا جدال أحد رواد المملكة على الصعيد الدبلوماسي، وواحد من أهم أركانها ودعائمها ممن لم يدخروا لا وقتا ولا جهدا في رفعتها وتطويرها وإلحاقها بالمكانة الراقية التي تستحقها بين بقية شعوب ودول العالم.