من الأقوال المنسوبة للشيخ محمد عبده : (إن الإسلام محجوب عن الدنيا بالمسلمين) بمعنى أن ممارسات التيارات الإسلامية المتطرفة، حجبت كثيرا من حقائق الدين وصوره المشرقة عن الدنيا، وعن واقع الناس المعاش من مسلمين وغير مسلمين، وما ذاك إلا لابتعادهم عن تمثل القيم الإسلامية، المستقاة من نصوص الدين المقدسة. إن التطرف في أي جهة كان، سلوك عصابي مترسخ في أعماق النفس البشرية يحتاج إلى دراسات عميقة لتفكيك دلالاته وإدراك أبعاده ومعانيه الكامنة في الوعي واللاوعي، بغية بث خطاب مغاير يعمل على نبذ التطرف بكل أشكاله والسعي إلى تحرير العقول من كل سلطان عدا سلطان العقل، فالمتطرف محكوم من الخارج لا من الداخل حيث تسيطر عليه قوى التطرف، وأربابه. التطرف في أي جهة كان، سلوك عصابي مترسخ في أعماق النفس البشرية يحتاج إلى دراسات عميقة لتفكيك دلالاته وإدراك أبعاده ومعانيه الكامنة في الوعي واللاوعي، بغية بث خطاب مغاير يعمل على نبذ التطرف بكل أشكاله والسعي إلى تحرير العقول من كل سلطان عدا سلطان العقل، فالمتطرف محكوم من الخارج لا من الداخل حيث تسيطر عليه قوى التطرف، وأربابه أقول هذا وأنا تحت وطأة العجب مما يروج في مجتمعنا من صراع عبثي، يتخذ أصحابه من مقولات الإسلام سندا لمواقفهم المتطرفة والمعادية للآخر، المشارك لهم في الانتساب الديني والوطني، على الرغم من المفاهيم الدينية التي تمج ما يأتون به من تصرفات.. تلعب شبكات التواصل الاجتماعي وبعض القنوات الفضائية والصحف الإلكترونية المتطرفة، دورًا محوريًا في "التعبئة" الجماهيرية، من خلال المدونات والتغريدات والتعليقات والبرامج والحوارات والمقالات، ولذلك لا ينفك العقلاء عن التساؤل هل هذه التقنية نعمة أم نقمة ؟ ذلك أنه بفضلها تكونت طبقة من المناضلين الكيبورديين ؛ إذ تشبع تلك التقنيات نهم بعضهم للشتم حدّ قذف من يختلفون معهم، والحط من شأنهم، وتخوينهم وتكفيرهم، وتكبير أخطائهم مهما صغرت، وعلى الصعيد الآخر يمجدون من يتماهون معهم فكرا وسلوكا، ويغمضون أعينهم عن أخطائهم مهما عظمت، وهناك أدلة كثيرة على تلك التجاوزات التي صدرت من بعض نجوم الدعوة والصحوة، سواء ما كان منها مكتوبا كتغريدات، أم عبر تسجيلات هاتفية، أم عبر صور مبثوثة في مواقع الإنترنيت، لكنّ عين المحب عن كل عيب كليلة. وبما أن اللغة تعكس ثقافة الأمة، وتجسد أنماط تفكيرها، فإن إدمان النضال خلف لوحة المفاتيح يغري بعضهم بالهبوط في لغة الخطاب إلى مستوى من التسافل اللغوي (عكس التعالي)، بمشاركة أتباع بأسمائهم الصريحة، وأشباح يتمترسون خلف أسماء مستعارة، إذ ليس ثمة رقيب على ما يكتب، أو طريقة للتقاضي والمحاسبة، إنه موقف ينضح بالفردية والذاتية المتورمة. ليس من الدين أو احترام الذات في شيء أن يصدر كاتب التدوينة أو التغريدة أحكاماً قاطعة بإدانة هذا الموقف أو ذاك، ثم يلصق بصاحبه كل ما وسعه من اتهامات وتشبيهات مذلة، وكل هؤلاء يتوسلون بالدين في مسعاهم إلى نشر رؤاهم وأفكارهم، وكان الاجتراء على الدين ونصوصه مما توارثه العرب منذ حقبة الخوارج في حربهم على علي بن أبي طالب، عندما رفضوا نتيجة التحكيم وقالوا مقولتهم الشهيرة "لا حكم إلا لله" ! يقتضي المنطق والفطرة السليمة أن صاحب الموقف الديني أو السياسي قد يخسر الكثير من الأنصار، إذا صاحبت طرحه نزعة عدوانية أو فحش لفظي، ذلك أنه ليس ثمة رابط يربطه بالسلوك الديني، بل هو أسلوب نابع من حسابات إيديولوجية خاصة، لكن الواقع يشي بغير ذلك، إذ يحظى هذا التجاوز السلوكي ببعض المحسوبين الذين يتكاثرون في حساب الداعية أو النجم الصحوي، ليشكلوا أمة من الأتباع والمؤيدين، فيتربون على هذا الأسلوب الممجوج، والتسافل اللغوي وسوء الخلق، وغيره مما يدخل في مفهوم الأخلاق الرثة - حسب كارل ماركس - ! إنّ السباب لا يمثل عملاً وطنياً أو سلوكاً دينياً، كما أنه لا يدل على فكر سليم، بل صار لغة يتقنها كثيرون بسبب الشبكات التي أشرت إليها، وكان ينبغي لمن يتصدون للخطاب الديني أن يكونوا أبعد الناس عنها، فإتقانها لا يمنح صاحبها أي تفوق أخلاقي، عدا ما يبتهج به الاتباع المغيبون. إن تدقيقاً في موقف الإسلام من مظاهر العنف اللفظي التي تسود ما يطرح هنالك، يمثل خرقاً صارخاً للقيم الإسلامية، التي هي قانون روحيّ اجتماعيّ، يربط أفراد المجتمع بعضهم ببعض، وبما أن الأخلاق تأخذ الطابع الشمولي الكوني "كونية الأخلاق"، فقد جاءت وحيًا من الله في الوصايا، منذ زمن موسى إلى عيسى فمحمد صلى الله عليه وسلم، لذا فإن الأخلاق هي القاسم المشترك في العلاقة بين المسلمين. وقد سماها القرآن ("الصراط المستقيم" في سورة الأنعام: ( قُلْ تعالوْا أتْلُ ما حرّم ربُّكُمْ عليْكُمْ ألّا تُشْركُوا به شيْئًا وبالْوالديْن إحْسانًا ولا تقْتُلُوا أوْلادكُمْ منْ إمْلاق نحْنُ نرْزُقُكُمْ وإيّاهُمْ ولا تقْربُوا الْفواحش ما ظهر منْها وما بطن ولا تقْتُلُوا النّفْس الّتي حرّم اللّهُ إلّا بالْحقّ ذلكُمْ وصّاكُمْ به لعلّكُمْ تعْقلُون ولا تقْربُوا مال الْيتيم إلّا بالّتي هي أحْسنُ حتّى يبْلُغ أشُدّهُ وأوْفُوا الْكيْل والْميزان بالْقسْط لا نُكلّفُ نفْسًا إلّا وُسْعها وإذا قُلْتُمْ فاعْدلُوا ولوْ كان ذا قُرْبى وبعهْد اللّه أوْفُوا ذلكُمْ وصّاكُمْ به لعلّكُمْ تذكّرُون وأنّ هذا صراطي مُسْتقيمًا..). تغرس القيم في النفوس تربويًا، في البيت والمدرسة والمسجد والمجتمع، وتزداد تأثيرًا ووضوحًا من خلال التفاعل مع المعطى الاعتقادي . فلو كانت أرضية القيم الدينية لدى المسلمين مجردة من الشوائب وخالية من الأغراض والهوى ؛ في الفهم والتفسير والتعامل، لأصبح المشترك الإنساني والديني هو الأساس في التفكير والتدبر والتعامل، ولساد الحياة عالمُ القيم الرفيعة الذي لا تنخره ازدواجية المكاييل، ولا يحكمه التعصب والتعنصر والهوى، ولما كان هناك أشرار، هم أخيار بمقاييس آخرين. إن دور الدين أساس في تشكيل القيم الأخلاقية والسلوكية، لدى أفراد المجتمع، لأنه يدخل في تفاصيل حياتهم وتفكيرهم ومواقفهم ونظرتهم للآخرين . وبهذا المنطق يمكن– لو أراد أولئك - أن يخلو مجتمعنا من أوجه الفوضى والعدوانية والتقاتل والصراعات، فالدين الذي يجمع في منظومته التكوينية قيم العقيدة والفعل الحضاري، لا يمكن حصر مقولاته في الجانب المتشدد والعنيف وعزله عن واقع الناس، لأن محاولة العزل أسهمت كثيرا في خلق التطرف الديني، وظهور التدين المختل، ونمو غريزة الاستعلاء على الآخر أيا كان، وتعطيل خطط التنمية، وهذا كله يهدم ويحطم أكثر مما يبني ويقي المجتمع من التصارع، وهو ما نشهده واقعا ماثلا أمام أعيننا جميعا! . إذا كان الدين يتضمن تصورا كونيا للحياة والإنسان والوجود، فإن هذا التصور لا يجد كامل بنائه إلا إذا تحول إلى واقع ؛ أي إذا ترسخت قيمه ومبادئه ومفاهيمه في حياة الإنسان . وهذا لا يكون إلا من خلال عملية التشكيل الثقافي والتربوي، للفرد والمجتمع، عبر برامج التعليم، فهو الذي يرسم معالم ثقافة مجتمع ما، وتميزه عن غيره حسب ما ترسخه المضامين التربوية في نفوس أفراده . ونخص التربية لأن القيم الدينية موجودة وثابتة في نصوص الدين، والذي يرسخها في النفوس هو أسلوب التعليم والتربية، وإلا بقيت مجرد شعارات غير قابلة للتطبيق ، وذلك ما نراه فيما يأتيه بعض من أشرت إليهم من تصرفات يمجها الدين. تقاس القيم في المنظور الديني بمدى ما يرتبط بها من خير أو شر، طاعة أو معصية، إحسان أو أذى، عدل أو ظلم، فما وافق الدين فهو حسن، وما خالفه فهو قبيح حتى لو ظن صاحبه أن ما يعمله هو لصالح الدين وخدمة له، فلقد ربط الله بين الإيمان والعمل الصالح (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً) . إن الضمير الإنساني الحي هو الذي يرى القبح قبحا لأن الدين قبحه ونهى عنه، ويرى الحسن حسنا ؛لأن الدين حسّنه وأمر به، ولأنّ الإسلام عقيدة وضوح واستقامة، فإنّه لا يقوم شيء فيه على الظن أو الوهم أو الشبهة: (ولا تقْفُ ما ليْس لك به علْمٌ إنّ السّمْع والْبصر والْفُؤاد كُلُّ أُولئك كان عنْهُ مسْئُولًا). وإني لأعجب أشد العجب ممّن يتصدون لتصنيف الآخرين بلا أدنى دليل، بل اعتماداً على الظن، واستجابة لذوي النفوس المريضة، فتأتي الفتاوى حاملة في طياتها كمّاً من الظلم بلا خوف من الله، ولا انصياع لتحذيره من مغبة الاستجابة لتحريض المحرضين، كما حدث من أقاويل في شأن الشيخ أحمد الغامدي، وكل الفتيات اللاتي قدن سياراتهن (يا أيُّها الّذين آمنُوا إنْ جاءكُمْ فاسقٌ بنبإ فتبيّنُوا أنْ تُصيبُوا قوْمًا بجهالة فتُصْبحُوا على ما فعلْتُمْ نادمين). إذ تقيم هذه الأية أسلوباً للقلب والعقل، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثاً جداً، ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة الله، فالتثبت من كل أمر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها، هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق، ومتى مااستقام القلب والعقل على هذا المنهج، لم يبق مجال للكذب والادعاء والظن والشبهة، والولوغ في أعراض الآخرين، إنها أمانة تُسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب،أمانة يُسأل عنها صاحبها، أمانة يرتعش منها الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة، وكلما أصدر حكماً على شخص أو أمر أو حادثة، فهل يرعوي أصحاب ذلك الخطاب المدمر؟