يتحمل الرجل المسؤول أولا وأخيرا عن استقرار سعر صرف العملة الأوروبية الموحدة، مسؤولية الأزمة التي أدت إلى تراجع قيمة اليورو لأدنى مستوى له منذ منتصف عام 2010، ليخسر نحو 0.4 في المائة من قيمته وليصل إلى 1.2034 مقابل الدولار. وبمجرد أن أدلى ماريو دراجي رئيس البنك المركزي الأوروبي بتصريحات صحافية، ألمح فيها إلى إمكانية قيام البنك قريبا بتبني سياسة تيسير كمي، في محاولة لإنعاش اقتصاد منطقة اليورو، وإخراجها من حالة الركود الراهن، أدركت الأسواق الدولية أن الأزمة الأوروبية عميقة الجذور، وأن الحلول المتخذة حتى الآن، فشلت جميعها في إخراج المنطقة من كبوتها، وأن اليورو في الظروف الراهنة مقيم بأعلى من سعره الحقيقي وأن الوقت قد حان لانخفاضه. وتشير التقديرات الأولية إلى أن برنامج التيسير الكمي الأوروبي لربما يقارب تريليون يورو وتحديدا 979 مليار يورو، وبصرف النظر عن المبلغ الذي سيتم رصده لهذا البرنامج، فإن عامل الوقت سيلعب دورا مهما لتحرك البنك المركزي الأوروبي لسرعة تطبيق تلك السياسة، حيث يشير مختصو صندوق النقد الدولي إلى أنه من المحتمل بنسبة 40 في المائة أن تدخل منطقة اليورو بشكل رسمي ومعلن مرحلة الركود في نهاية النصف الأول من العام الراهن. ولكن ما الذي دفع برئيس البنك المركزي الأوروبي للتلميح بتبني سياسة التيسير الكمي، وهو يعلم تمام العلم مدى التأثير السلبي لإعلانه هذا في قيمة اليورو في الأسواق الدولية؟ الدكتور سبنسي بيتر أستاذ الاقتصاد الأوروبي في جامعة ليدز يعتبر أن أوروبا لم يعد أمامها من بدائل أخرى غير التيسير الكمي كورقة أخيرة للإنعاش الاقتصادي، ووفقا للأكاديمي البريطاني فإن ماريو دراجي يعلم ذلك تماما، ويدرك أن هذه التصريحات ستؤثر سلبا في اليورو، ولكنه تأثير مؤقت لأنه بمجرد تطبيق سياسة التيسير الكمي سينتعش الاقتصاد الأوروبي ويتحسن سعر صرف العملة الأوروبية الموحدة مرة أخرى. وأضاف بيتر لـ "الاقتصادية"، أن المشكلة الراهنة في منطقة اليورو هي مشكلة مركبة، فالركود الاقتصادي المتمثل في انخفاض معدلات النمو يترافق مع انخفاض شديد في معدلات التضخم، وهدف رئيس البنك المركزي الأوروبي هو منع أسعار السلع والخدمات في بلدان اليورو من مواصلة الانخفاض، لأن ذلك لن يشجع رجال الأعمال والمستثمرين على توسيع نشاطهم الاقتصادي، وحينها ستصاب الدورة الاقتصادية بخلل، وسيرتفع معدل البطالة، كما أن الشركات ستخفض مستوى الأجور والرواتب، أو أنها لن ترفعها في أحسن الأحوال، مضيفاً أن "علينا أن نتذكر أن معدل التضخم في دول منطقة اليورو حاليا 0.3 في المائة وهو معدل أقل كثيرا من المستهدف من المركزي الأوروبي البالغ 2 في المائة". ويأمل بعض المختصين أن يؤدي الانخفاض الراهن في قيمة اليورو إلى تعزيز صادرات بلدان المنطقة وخفض وارداتها ومن ثم رفع معدلات التضخم، إلا أنه وفقا لوكالة "رويترز" للأنباء فإن آخر البيانات المتاحة من صندوق النقد يشير إلى أن احتياطات النقد الأجنبي باليورو التي تحتفظ بها البنوك المركزية انخفضت إلى أدنى مستوى لها في أكثر من عشرة أعوام في الربع الثالث لعام 2014 إذ بلغت أقل من 23 في المائة. وتبلغ حصة اليورو من احتياطات صندوق النقد الدولي إجمالا 1.4 تريليون دولار أو 22.6 في المائة من إجمالي مخصصات الاحتياطي منخفضة من 1.5 تريليون دولار أو 24.1 في المائة في الربع الثاني من عام 2014، فيما سجلت أحدث حصة أقل نسبة مئوية من إجمالي الاحتياطات منذ الربع الثالث لعام 2002. وانخفضت احتياطات النقد الأجنبي العالمية إلى 11.8 تريليون دولار وهو أول هبوط فصلي منذ الأزمة المالية في أواخر 2008 وأوائل 2009، إذ سجلت الاحتياطات العالمية مستوى قياسيا بلغ 12 تريليون دولار في الربع الثاني لعام 2014. وزادت حصة الدولار الأمريكي من الاحتياطات إلى 62.3 في المائة لتبلغ إجمالا 3.9 تريليون دولار مرتفعة من 60.7 في المائة في الربع السابق ومسجلة أعلى نسبة مئوية لها منذ الربع الأخير لعام 2011، وكانت حصة الين من الاحتياطات مستقرة دونما تغير تقريبا عند نحو 4 في المائة. وتواجه سياسة التحفيز الكمي لرئيس البنك المركزي الأوروبي تحديا رئيسيا عند دخولها حيز التطبيق، ويوضح ريتشارد نيتشهولز الاستشاري في مجموعة لويدز المصرفية طبيعة هذا التحدي لـ "الاقتصادية"، بأن الفترة بين بدء تنفيذ سياسة التيسير الكمي والمتوقع أن تكون خلال ثلاثة أسابيع، وقدرة تلك السياسة على إحراز نتائج تذكر سواء برفع معدلات التضخم أو زيادة معدلات النمو، ستكون طويلة وستشهد مزيدا من التراجع الملحوظ في قيمة اليورو، وأعتقد أن النموذج الياباني واضح في هذا المجال، فمنذ منتصف عام 2012 خسر الين نحو ثلث قيمته أمام الدولار الأمريكي، ومع هذا لم ترتفع معدلات الصادرات اليابانية، ولا يزال الاقتصاد في وضع الركود التضخمي. ولكن إلى أي مدى يمكن أن تواجه سياسة دراجي للتحفيز الكمي معارضة من قبل أعضاء منطقة اليورو خاصة ألمانيا؟ على أساس أن جوهر خطة رئيس "المركزي الأوروبي" هي شراء البنك كميات كبيرة من سندات الخزانة لبلدان اليورو، وضخ كميات كبيرة من الأموال في النظام المالي، ويعني هذا عمليا زيادة قدرة المصارف على الإقراض، ما سيدفع حتما إلى زيادة الإنفاق المالي لدى بلدان اليورو، وهو ما لا يتفق مع رؤية فولفجانج شويبله وزير المالية الألماني المدعوم من المستشارة أنجيلا ميركل. فألمانيا والبلدان الغنية في منطقة اليورو تعرب عن خشيتها من أنه في حالة فشلت خطة رئيس البنك المركزي في أن تعيد الانتعاش لمنطقة اليورو، وزادت الأوضاع الاقتصادية تدهورا، فإن الدول الغنية في المنطقة وتحديدا ألمانيا هي التي ستتحمل العبء الأكبر، إذ سيكون حتما عليها ضخ مئات المليارات من العملة الأوروبية في اقتصاد المنطقة لإنقاذها من شبح الانهيار. وتقول الدكتورة إليزابيث بيتر من المركز الأوروبي للدراسات، "إن منطقة اليورو تمر بمرحلة حاسمة، وعلى الرغم من الاعتراضات الألمانية على خطة دراجي، فإن دول المنطقة لن يكون أمامها سوى تبني هذه الخطة، فهي الأمل الوحيد للخروج من الأزمة التي أصابتها منذ عام 2008، ولأن رئيس البنك المركزي الأوروبي معين وغير معني بمدى جماهيريته وشعبيته في أوروبا، وهي القضية التي تتحكم في قرارات القادة السياسيين، فإنه يستطيع أن يتخذ قرارات أكثر قسوة لإعادة الحياة للاقتصاد الأوروبي".