بيروت: فيفيان حداد «هو حلم كان يراودنا منذ استشهاده واليوم استطعنا تحقيقه». بهذه الكلمات عبرت ميشيل تويني عن شعورها تجاه المعرض الذي أقيم مؤخرا عن حياة والدها جبران تويني وسط بيروت، وتابعت لـ«الشرق الأوسط» التي التقتها في المعرض: «استشهاد والدي جعلني في ظرف شهر واحد أكبر عشر سنوات مرة واحدة، وأكثر ما أحبه في المعرض هو الغرفة السوداء التي يصدح منها صوت جدي غسان تويني يخطب بالجموع الغفيرة بعد استشهاد والدي. فالاثنان عزيزان على قلبي وعلى الوطن». أول انطباع يساورك ما إن تدخل باحة المعرض في فندق «لو غراي» مقابل مكاتب جريدة «النهار» هو الإحساس بوجود جبران تويني حيا، خصوصا أن أي مشهد يدل على رحيله اختفى تماما عن أقسامه. بالصوت والصورة تستمع إلى جبران، تتابع محطات حياته، تدقق في تفاصيل وجهه، تتعرف إلى مكنونات قلبه، إلى حزنه وفرحه، إلى إيمانه وثورته. وتفاجأ بأن جبران لم تتغير ملامحه منذ الطفولة إلى حين إلقائه قسمه الشهير في ثورة الأرز من عام 2005: «نحلف بالله العظيم مسلمين ومسيحيين أن نبقى موحدين إلى أبد الآبدين دفاعا عن لبنان العظيم، عشتم وعاش لبنان». وهو القسم الذي حفظه اللبنانيون صغارا وكبارا عن جبران وما زالوا يرددونه حتى اليوم. يطالعك على مدخل المعرض الذي نظمته مؤسسة جبران تويني شاشة عملاقة تعرض مقتطفات من مقابلات متلفزة أجريت معه وإلى يسارها يعرض قسم جبران مدونا. وتستقبلك في الواجهة صورة كبيرة له ولوالده مرفقة مع عبارة «جريدة النهار». بعدها مباشرة تبدأ جولتك في المعرض الذي يشدك منذ اللحظة الأولى بحميميته وتفاصيله الجامعة لأربع مراحل من حياته: الطفولة مع الأم (ناديا) والأب (غسان)، الشباب وسنوات النهار العربي في السبعينات، ومن ثم الحلم وإنجازه (نهار الشباب)، وأخيرا دخوله المعترك السياسي وعضوية (لقاء قرنة شهوان) لتعزيز المناخات الوفاقية في لبنان. تحتار أثناء تجوالك كيف تتحرك. هل يمينا لتلحق بصوت الشاعرة ناديا تويني (والدة جبران) تلقي قصائدها، أم يسارا لتقرأ رسالة رثاء كتبها جبران إلى أخيه مكرم إثر مصرعه في حادث سيارة في باريس؟ الأضواء الخافتة المسلطة على مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي تظهر جبران مع والديه حينا وفي المدرسة حينا آخر تسرق البصر. ومهما حاولت أن لا تفوتك محطة ما، لا بد أن تعود أدراجك مرة جديدة، لتتأكد من تفاصيل معينة لفتتك وأنت تشاهد فيلما توثيقيا متواصلا لجبران الطفل مع ألعابه أو في ثياب العيد أو في حضن والدته. الديناميكية هي عنوان هذا المعرض الذي يشبه تماما شخصية جبران في الواقع. هنا حركة دائمة استحدثت ضمن ديكور دافئ لصور ومخطوطات، وهناك نبرة صوت حر حفظناه غيبا يبعث فيك الحنين لاشعوريا. وفي زاوية تحمل حيطانها الواسعة مقالاته الجريئة تشعر للحظة أنك بمثابة نقطة في بحر جبران تويني الصحافي. تتفرج وتستمع وتقرأ وتبتسم وأنت تمر على أركان المعرض. المؤثرات الصوتية التي استخدمت في أقسام المعرض الأربعة لعبت دورا محفزا لتتجول فيه دون ملل ولتفتش وتبحث وتبقى في أقسامه لأطول مدة ممكنة. أما الصور المنتقاة للراحل بالأسود والأبيض مع أولاده أحيانا ومع شخصيات سياسية أحيانا أخرى، إضافة إلى تلك التي تظهر أهم الشخصيات التي عشقها كفيروز وتشي غيفارا وجون لينون وجون كينيدي وفرانك سيناترا، تبرز حداثة الأسلوب والمستوى الشبابي العالي المتبعين في تقديم سيرة جبران الثائر والمشاغب أبدا. «نحن جيل الفرصة الأخيرة»، «أوقفوا الحرب فكلكم مغلوبون»، «مجانين الحرية»، و«حذار المعركة الكبيرة فبعدها الطلاق»، هي عناوين لمقالات كتبها جبران تويني في جريدة «النهار» التي ترأس مجلس إدارتها، فدافع من خلالها عن لبنان واستقلاله وكيانه في وجه المطامع السياسية، تماما كما جاء في وصية جده جبران التي يتضمنها المعرض أيضا. حتى هوايات الراحل جبران تويني لم تغب عن المعرض، حيث خصص لها ركن مميز عرض فيه بالصورة المتحركة جبران هاوي التزلج على المياه وركوب الخيل وقيادة سيارات الـ«ATV» وتجديف السفن وغيرها، يقابله ركن آخر تصدح منه أغانٍ كان يحب الاستماع إليها مثل «نحنا والقمر جيران» لفيروز و«yesterday» و«let it be» لفريق البيتلز، إضافة إلى واحدة أداها بصوته في الإعلان الترويجي للمعرض «my way» لفرانك سيناترا. كل هذه المجموعة رصدت في المعرض تحت عنوان «جبران على طريقته الخاصة». ولعل القسم المخصص لزاوية الـ«هايد بارك» التي ابتكرها جبران في «نهار الشباب» هو أكثر ما استقطب زوار المعرض، إذ وقفوا أمام لوحة عملاقة بيضاء استحدثت خصيصا لكتابة كل ما يخطر على بالهم عن جبران، فأحدهم كتب «ثمن الحرية لا يقدر» وآخر دون «كلنا جبران» وثالث قال «بعدك معنا ما رحت» أو «بيروت اشتاقت إليك». قلم الحبر الذي كان يكتب به إضافة إلى آخر مقال حرره والعلم اللبناني الذي حمله والوشاح بالأحمر والأبيض الذي لف عنقه أثناء ثورة الأرز وكتاب أحبه فقرأه أكثر من مرة بعنوان «the art of war» للصيني سون تزو (كتب في القرن السادس قبل الميلاد)، هي بعض مقتنيات جبران تويني التي تضمنها المعرض لتقديم لمسة إضافية من خصوصياته. الركن الذي يطالعك في نهاية الجولة، صمم بشكل دائري أحيط بالأعلام اللبنانية. وفي وسطه شاشة عملاقة يظهر جبران تويني أثناء أدائه القسم في ثورة الأرز، فينقلك لاشعوريا إلى مكان الحدث وكأنه يجري أمامك مباشرة. تسمع صراخ المتظاهرين تلمسك حماسة جبران فتسرقك وطنية الموقف لتدفعك إلى المشاركة بالثورة من جديد. وقبل أن تغادر المعرض تعرج على الغرفة السوداء التي يخرج منها صوت غسان تويني المتهدج يدعو بعيد استشهاد ولده جبران إلى دفن الأحقاد. هي غرفة فارغة باردة وداكنة مغطاة بستائر سوداء تتوسطها طاولة عالية وضع عليها «الكتاب الذهبي» ليدون فيه من يشاء من الزوار كلمة عن المعرض أو صاحبه. تغادر المعرض وجميع حواسك محفزة بصوت وصورة جبران. تشعر وكأنه استقبلك شخصيا، فغنى وخطب وكتب وتجرأ وبقي حاضرا أمامك أبدا، فتستودعه وأنت تنظر إلى الوراء علك تشاهد طيفه بقامته الطويلة وابتسامته المعهودة يرافقك إلى الخارج.