من أفضل اللآلئ التي يمكن التقاطها في هذا البحر الإعلامي المتلاطم من الاخبار والتحليلات المصاحبة للهبوط الحاد في أسعار النفط العالمية مقالة نشرت على موقع (بلومبيرج) يوم الاثنين الماضي 29 ديسمبر 2014 بقلم (لورين إتير) عن لجوء بعض ملاك آبار النفط في تكساس وغيرهم لزراعة مساحات كبيرة من أراضيهم بأشجار الزيتون ضمن مساعيهم للتعويض بالتنويع عن مصادر دخلهم المفقود. ولم يعرف عن هذه الولاية انتاجها التجاري لزيت الزيتون ولكن تحت وطأة الأزمة الاقتصادية سنة 2008 اقتنص بعض الفطنين والمبادرين، فرصة الركود وتباطؤ الإنتاج النفطي للتفكير ببدائل يمكن أن تضمن لهم دخلا مستقبليا مجزيا، فهدتهم عقولهم مع المشورة المناسبة إلى غرس أشجار الزيتون لإنتاج الزيت الذي تعتبر الولايات المتحدة مستهلكا رئيسيا له ولا يشكل انتاجها المحلي منه سوى 3 % من استهلاكها. وكما في النفط فإن الولايات المتحدة نهمة في استهلاك زيت الزيتون الذي استوردت منه ما قيمته 1,1 مليار دولار سنة 2013. وهكذا ارتفع عدد أشجار الزيتون في تكساس من 80 ألفا سنة 2008 إلى 500 ألف بحلول 2013 كما ارتفع عدد المزارعين المنتجين لزيت الزيتون من 24 إلى 70. وبالمقارنة، وبحسب البيانات المتاحة التي لا أعرف مدى دقتها فإن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية تستورد ما لا يقل عن 15 ألف طن من زيت الزيتون في العام وتقدر قيمتها بنصف مليار ريال. وحتى لا ننساق للترويج لزيت الزيتون أكثر مما نقصده في هذه المقالة فإن أهل تكساس استثمروا أيضا في مجالات أخرى وظهرت في اقتصادهم المحلي قطاعات اقتصادية جديدة لم تكن معروفة سنة 2008 بحسب بعض خبراء التنمية المحليين. وبالمقارنة أيضا فإن تنويع مصادر الدخل في اقتصاد تحركه قوى السوق ويهيمن عليه ملاك متعددون كما هو الحال في الاقتصاد الأمريكي والغربي عموما أسهل بكثير منه في اقتصاداتنا الخليجية الريعية التي تهيمن عليها منتجات قطاع أولي قائد ومالك وحيد تقريبا لهذا القطاع هو الحكومة. ولذلك تشرئب الأعناق للميزانيات العامة للدول لما يتوقع أنها تحمله من مخصصات وتوزيعات للدخل المتولد عن تصدير تلك المنتجات. ولا تتوافق مخصصات وتوزيعات الميزانيات العامة في العادة مع تطلعات مختلف المواطنين ما يعتبر طبيعيا في ضوء حسابات الدول التي تتناهش مواردها أولويات واحتياجات متعددة قد لا يتفهمها المواطن الذي تربى على أن الدولة مسؤولة عن تلبية كافة احتياجاته بصفتها مالكة لأهم موارده. وعلى سبيل المثال فقد حملت الميزانية العامة للمملكة للعام 2015 مخصصات جيدة للعديد من قطاعات الإنفاق الحكومي ولكنها قصرت عن إرضاء الخبراء في ما يتعلق بمسألة تنويع الاقتصاد الملحة. فقطاع (الموارد الاقتصادية) الذي يفترض أنه يحمل مؤشرات التنويع لم يحظ بسوى (60) مليار ريال تشكل 7 % فقط من إجمالي الإنفاق في الميزانية ويتوقع أن يصرف منها على توفير المياه وتطوير مصادرها والتعامل مع خدمات الصرف الصحي وإنشاء السدود وحفر الآبار وتطوير مصادر الطاقة المتجددة، وتحلية المياه بالطاقة الشمسية، وتطوير مرافق صيد الأسماك ومكافحة الأمراض والآفات الزراعية وتطوير البنى التحتية وصوامع الغلال.. الخ. بل ان معدي بيان وزارة المالية بشأن الميزانية المنشور على موقعها لم يفكروا بغير الحلول السهلة في تأكيدهم على أن الوزارة بصدد (بذل المزيد من الجهود للحد من النفقات الجارية خاصة نفقات الرواتب والأجور والبدلات وما في حكمها) والتي تمثل بحسب البيان (قرابة 50 %) من النفقات المعتمدة في الميزانية. وكالعادة لم يوضح البيان كيف سيتم ذلك ولكن حين نسب الناس هذا النص لوزير المالية سارع مصدر مسؤول في الوزارة لنفي التصريح ولكنه تجاهل الإشارة لما ورد في البيان. ولذلك أرى بأن علينا كمواطنين المبادرة للعمل على تغيير أسلوب تفكيرنا الريعي وفتح أفواهنا كعصافير الأعشاش الصغيرة بانتظار ما تضعه أمنا الحكومة في أفواهنا، ولنبدأ بالنظر حولنا في كل منطقة وفي كل حي وعلى مستوى كل عائلة للبحث عن فكرة أو منتج يمكننا أن نقدمه للناس فيدر علينا دخلا مناسبا حتى لو كان لدينا مصدر ثابت للدخل كالراتب أو الأجر. فالتنويع الاقتصادي الكبير يبدأ بمبادرات شعبية وفردية صغيرة لا بانتظار مخصصات الميزانية، وعلى الحكومة أن تدعم مبادراتنا في هذا الاتجاه بالتسهيل والحماية. والحماية التي أقصدها هنا لا تقتصر على الحماية الجمركية ومن الأجانب المنافسين بل تشمل أيضا الحماية من القوائم الطويلة من الأنظمة والقوانين واللوائح والإجراءات التي يشهرها أعداء النجاح المعششون في البيروقراطية الحكومية في وجه كل من تسول له نفسه أن يبدأ عملا ناجحا ويرفض المبدأ الريعي الشهير (كل قرضك واقضب أرضك)..