إن الله سبحانه وتعالى أوصى بالوالدين في آيات كثيرة وجاءت أحاديث عديدة تصب في هذا الجانب؛ فقد قرن -عزّ وجل- عبادته وحقه في التوحيد بحق الوالدين والإحسان والبر إليهما، وكل هذه الآيات وهذه الأحاديث النبوية الشريفة التي جاءت تحمل بين ثناياها فضل ومكانة الوالدين وحقوقهما على أبنائهما، وهي كفيلة بأن يكون مجتمعنا الإسلامي مجتمعاً باراً وعطوفاً بالوالدين. قال الله تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا). إلا أن ما نسمعه ونقرأه عبر أجهزة الإعلام المختلفة ومن بعض العامة أن هناك فئة قليلة من مجتمعنا غير عابئة ولا مكترثة بما ورد في الكتاب والسنة بشأن تلك الفِطرة السليمة التي فُطرنا عليها عن فضل الوالدين وعظيم ذلك وأثره.. تلك القِلة اتبعت هوى الشيطان ومزالِق الهوى بسبب ضعف الوازِع الديني عند هؤلاء الأبناء. إنني لا أُحمل تبعات كل ذلك على الأبناء، بل هناك بعض من الآباء هداهم الله يتركون الحبل على الغارب، وهناك فجوة وهوة كبيرة بينهم وبين أبنائهم، مما ينعكس ذلك سلباً على الأبناء ويحصل ما لا يُحمد عُقباه، ويكون السبب الرئيس الأب؛ لأنه يبقى بعيداً عنهم وعن الأسرة كلها بسبب انشغال غير مُبرر؛ إما السفر الدائم أو بقاؤه خارج المنزل أكثر من بقائه مع أُسرته، دون الاكتراث لانعكاسات ذلك الابتعاد وما يتركه من عواقب وخيمة وإفرازات سيئة يدفع ثمنها غالباً الوالد، فيفتح الباب على مصراعيه للأبناء للانحراف وسلوك طريق الشيطان. وينجرّ بعض منهم لإدمان المخدرات وكل الأعمال غير المحمودة، وما هو أدهى وأمرّ ذاك الأمر الخطير وهو قتل الابن لأبيه بسبب فقدانه لوعيه وعدم السيطرة على نفسه الأمّارة بالسوء، من هذه الأخبار المؤلمة نجد أن ذلك هو الخُسران المُبين. وكما يطالعنا التاريخ ما كان للوالدين من المكانة العالية امتثالاً لأوامر المولى -عزّ وجل- وما جاء به الهدي النبوي فقد سطّر لنا التاريخ من القصص الجميلة، منها (جاء رجل من اليمن إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج حامِلاً والدته على ظهره يطوف بها البيت العتيق وقابل ابن عمر -رضي الله عنه- وقال له هل تراني قد أديت حقها؟ قال له: ولا بزفرة من زفرات الحمل). ذلك يؤكد أنه مهما عمل الأبناء لوالديهم فإنهم وأيم الله مقصرون، بل يردون بعض جميلهم وحُسن صنيع والديهم تجاههم، من هنا نقول إن عُقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب على الإطلاق بعد الشرك بالله -عزّ وجل-، عُقوق الوالدين أعاذنا الله منه.. أليس حرماناً من رضوان الله؟ أليس هناك خوف من عذاب الله؟ والذي يقترف هذا الإثم الكبير يستحق الوعيد الشديد والعقاب الأليم. جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والمدمن على الخمر والمنان بما أعطى). ألا يعلم ذلك المفرط كفاح والديه وما كانا يُعانيان وما تكبدا وسهرا جرّاء ظروف الحياة وقسوتها على بعضهم، وقد عمل والداه دون كلل ولا ملل في توفير الحياة الكريمة له، وربما كان والداه لا يملكان قوت يومهما ومع ذلك لا يألوان جُهداً ويبذلان كل ما بوسعهما في توفير الشيء ولو كان قليلاً لسد رَمق أبنائهما وربما على حِساب نفسيهما وراحتهما وصحتهما؟.. وعندما كبر واستوى عُوده وأصبح يافعاً وقد وصل إلى درجة عالية من التعليم، كل ذلك بفضل الله أولاً ثم بفضل ما وفره له والداه من ظروف ومناخ.. لقد نسي بل تناسى كل ذلك. فنرى بعضهم عندما يبلغ والداهم من العمر عتياً أو ربما قبل ذلك يغيب ويتهرب منهما، وإن زارهما لا يعيرهما أي اهتمام ولا عِناية ولا لحظة انتباه، وقد يصل الأمر إلى إدخالهما دار المسنين أو إلى أحد المستشفيات دون عِلمه لابتعاده عنهما، ربما يكون ساكناً في سكن والده لكن قسوته وظلمه لِنفسه أدى به إلى التفريط في هذا الفضل والأجر العظيم، وقد تركهما للآخرين للاهتمام بهما ورعايتهما بل والصرف عليهما ومساعدتهما على أعباء الحياة وجعلهما عَالة على الجمعيات الخيرية وأهل الخير والمحسنين على الرغم من أن ظروف ابنهما تسمح بإعالتهما والقيام بكل تلك الواجبات. ألا يعلم ذلك المفرط أن بر الوالدين هو مفتاح كل خير ومغلاق كل شر في برهما. طاعتهما هي طاعة لله تعالى وطاعة للمصطفى -صلى الله عليه وسلم- ثم هو دين يدخر له في ذريته؛ فيرى ثمار بره قد أينعت في ذريته فتقر عينه وينشرح صدره لِما يرى ويلمس من بر أولاده به، وإن كان خلاف ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه. ما يُدمي القُلوب أن هذه الأعمال المُشينة لا يتصورها صاحب لُب وبصيرة، وهذه الاقترافات الآثمة لم نعهدها من قبل ولم نسمع عنها أبداً إلا في هذه الأيام، أعزو ذلك أولاً إلى ضعف الوازِع الديني ومن ثم التباعُد بين الأب وأُسرته، ابتعاد الوالد عن البيت لِفترات متفاوتة بلا مُبرر كما أسلفنا، بعدها لا يستطيع لملمة الأُمور وجمع الشتات، بل تضيع هذه الأُسرة -وأخص فلذات الأكباد- من يديه، ولا ينفع الندم ولا البُكاء على اللبن المسكوب.